حين عرض فيلم صلاح أبو سيف «السقّا مات» للمرة الأولى عام 1977، لم يكن من الواضح تماماً أو من المتوقع أن يحوز هذا الفيلم الذي أنتجه يوسف شاهين شراكة مع تونس، على مكانة كبرى في تاريخ السينما المصرية. ذلك أن «السقا مات» هو واحد من تلك الأفلام التي لا تكتشف قيمتها إلا بالتدريج، وبعد مرور سنوات على بدء حضورها. حاله في هذا المجال تماثل حال «باب الحديد» ليوسف شاهين، مثلاً. أو حال «الفتوة» لصلاح أبو سيف نفسه. فإذا أضفنا الى هذا ان الفيلم مأخوذ عن رواية للكاتب يوسف السباعي، والسباعي كان في ذلك الحين وزيراً للثقافة في حكم الرئيس أنور السادات، وبالتالي كان على خصومة مع عدد كبير من كبار رجال الثقافة في مصر والعالم العربي، يمكننا أن نفهم بعضاً من التردد في استساغة هذا الفيلم للوهلة الأولى. ثم إذا نظرنا الى أن موضوع الفيلم نفسه هو الموت الذي يحمله حتى في عنوانه متذكرين أن الموت لم يكن هو نفسه مستساغاً في واجهة العمل السينمائي، ندرك المزيد عن حظوظ هذا الفيلم حين عرضه، نقدياً وجماهيرياً. غير انه ما إن مر بعض الوقت، وما ان شوهد الفيلم في شكل أكثر وعياً وتذوقاً، حتى راح الفيلم نفسه يبدل من نظرة الناس اليه، بل حتى الى أدب يوسف السباعي في شكل عام، حتى وإن كان قيل في ذلك الحين ان هذه الرواية لم تكن أصلاً من كتابة يوسف السباعي، الذي كانت له نجاحات كبرى في الأدب الرومانسي العاطفي، لكنه لم يكن، بحسب البعض، ذا باع في الأدب الفلسفي الإنساني. ومن هنا راح يقال، من دون أدلة سوى ما أوتي به من داخل النص نفسه، بأن «السقا مات» هي من كتابة الأديب الفيلسوف، محمد السباعي والد يوسف. وان هذا الاخير انما وجدها مخطوطة بين شركة والده فأخذها وأجرى فيها بعض التعديلات ليطبعها على انها من تأليفه. طبعاً هذا كله لم يثبت أبداً، بل انه صار في مهب النسيان شهراً بعد شهر أو عاماً بعد عام، ليتبوأ الفيلم مكانه كواحد من أجمل وأقوى الأفلام التي حُققت في مصر في سنوات السبعين. لقد اشرنا أعلاه الى أن النص كما كتبه يوسف السباعي، كان فلسفياً في شكل أو آخر. والحال أن هذا الوصف ينطبق أيضاً على الفيلم نفسه. غير أن فلسفته ليست منهجية ولا تأملية، بل هي فلسفة شعبية خالصة تنتمي الى ما يعتبر عادة من نوعية الحسّ العام، أي النظرة الفلسفية التي يلقيها الناس العاديون على شؤون العيش والموت. ولعل من المفيد أن نذكر هنا، بداية، ان العنوان نفسه مأخوذ من عبارة شعبية تتراوح بين المثل والشتيمة والسخرية وهي: «أبوك السقا مات». بيد أن السباعي، ثم صلاح أبو سيف - ولا سيما محسن زايد الذي كتب السيناريو بقوة وتماسك لافتين، بحيث كانت تلك واحدة من المرات النادرة التي بدا فيها السيناريو متفوقاً على النص الأصلي -، حولوا العبارة الى تقرير واقع الحال: حيث ان ما لدينا هنا هو سقاء ماء، من النوع الذي يدور ليبيع ماء الشرب في الحارات الشعبية. لكنه، في حقيقة الأمر، ليس هو المقصود في العنوان... لأن السقاء المقصود هنا، والذي يموت في الفيلم بالفعل هو صبي حانوتي، من النوع الذي يسير في جنازات الميتين نادباً باكياً، انما في الوقت نفسه مطيباً خاطر أهل الفقيد، بل ناشراً نوعاً من روح المرح والدعة بينهم. ومن ناحية مبدئية كان يتعين على ذلك الرجل أن يحمل رائحة الموت أينما حلّ ومرّ. لكنه في الفيلم - كما في الرواية - يبدو لنا شخصاً يحمل الحياة نفسها، وكأنما وجوده ماء يسقي النبات اليابس الكئيب فيبعث فيه الحياة. هذه هي، في الحقيقة، المفارقة الأساسية الرائعة في هذا الفيلم. ولنوضح الأمر: يدور الفيلم حول اللقاء بين شخصيتيه الرئيستين: المعلم شوشة وشحاتة أفندي. وهما معاً يعيشان في منطقة الحسينية الشعبية القاهرية أوائل القرن العشرين. الأول (وقام بدوره عزت العلايلي) يعمل بائعاً للماء (سقاء)، حيث يحمل كل صباح ماءه ويدور به بين البيوت والمحال. من ناحية مبدئية هو يبيع الماء، أي يبيع الحياة، ما يفرض عليه أن يكون مفعماً بالحياة، فصاحب الشيء هو فقط من يعطي الشيء. لكن المعلم شوشة كئيب ويتحرك كالميت، على الأقل منذ ماتت زوجته المحبوبة تاركة له ابنهما الصبي، وأمها العمياء التي تعتني الآن بالولد وأبيه، ولا يمضي عليها يوم إلا وتدعو فيه صهرها الى الزواج - من بنت الجيران - كي تعتني بالأب والابن بعد موتها هي. لكن شوشة يرفض هذا، لأنه واقع في غرام زوجته الراحلة ولا يجد أن في امكان أية امرأة أن تحل مكانها. ان هذه الزوجة تشكل همه اليومي ورفيقه الدائم. يعيش معها يخاطبها في شكل يجعلنا نرى أنه يعيش مع الموت، وهو الذي يعيش من الحياة. في المقابل هناك شحاتة أفندي، الذي يلتقي بشوشة ويصبحان صديقين، الى درجة يدعو معها شوشة شحاتة الى الإقامة معه في بيته. وهنا، من ناحية مبدئية، ولأن شحاتة يعايش الموت من خلال المهنة التي يقوم بها، يجدر به هو أن يكون مكتئباً... لكنه على عكس ذلك تماماً. فهو، لفرط معاشرته الموت، صارت له فلسفة تسخر من هذا الموت، تجابهه يومياً، لا تخافه. شحاتة شخص مقبل على الحياة، على عكس صاحبه. مقبل على طعام متواصل لا يعني للمعلم شوشة شيئاً. ومقبل على المرأة، التي دفن شوشة اقباله عليها منذ دفن زوجته. يقدم لنا فيلم صلاح أبو سيف هاتين الشخصيتين المتناقضتين، تحديداً من خلال فلسفة الشعب في التعاطي مع فكرة الموت. ومن هنا يكاد يمضي النصف الأول من ساعتي الفيلم من دون احداث سوى عرض الشخصيتين الرئيستين، والمجابهة بينهما: المجابهة بين موت يمثله شوشة في عمق أعماقه، بينما تقول لنا صورته الظاهرية انه يمثل الحياة، وحياة يحملها شحاتة في داخله، بينما تقول لنا صورته الظاهرية، انه يعيش الموت يومياً. هذه المجابهة هي التي تشغل، على أية حال، ليس النصف الأول من الفيلم، ولكن الفيلم كله، في حوارات أخاذة بين الاثنين منذ أصبحا صديقين... ولكن بالتدريج ستنقلب الآية تماماً، منذ اللحظة التي يبدأ فيها الفيلم يحمل أحداثاً، لا عرضاً للشخصيتين فقط. إذ بالتدريج هنا، يبقى شحاتة على حاله من حب للحياة وإقبال عليها، فيما تبدأ بعض ملامح تغييرية تلوح على شوشة، ما يعطي الفيلم أفقه: فهو - أي الفيلم - ليس على موقف حياد تجاه المنطقين. انه مع منطق الحياة. وهو لتبيان هذا، يجب عليه، اضافة الى إحداثه قلبة في شخصية شوشة تقربه الى الحياة، يجب عليه أن يوجد حدثاً يعطي تلك القلبة معناها ومبررها. وهذا الحدث لن يكون هنا أقل من موت المعلم شحاتة. واللافت أن هذا الموت يحدث في الوقت نفسه تقريباً، الذي يكون فيه شوشة قد رضي أخيراً بأن يتزوج من ابنة الجيران بناء لنصائح الحماة، وشحاتة نفسه. لكن صدمته ستكون كبيرة حين يكتشف أنه تأخر، ذلك ان الفتاة كانت في تلك الأثناء قد خطبت لغيره بعدما انتظرته طويلاً. غير أن هذه الصدمة لن تكون أكبر من صدمة شوشة بموت صديقه. لكن الموت هذا كان من نوع الموت من كثرة الحياة. فهو يحدث ذات ليلة يكون فيها شحاتة قد تناول أشهى الطعام والأطايب والمقبلات والمقويات استعداداً لليلة أنس مع الجارة صاحبة المقهى التي يرتبط معها بعلاقة. انه يموت لفرط ما يأكل. يموت متلذذاً بالحياة. وطبعاً تشكل الخسارتان معاً صدمة كبرى لشوشة. لكنها، وكما يتبين بعد قليل صدمة تبعث فيه حياة جديدة. صدمة تتلاءم أصلاً مع مهنته كسقاء. لكنها ستقوده الى مهنة شحاتة. فهو إذ يتوجه الى حيث يقيم زملاء هذا الأخير كي يرد لهم الثياب الخاصة بالجنازات، والتي يرتديها شحاتة عادة، يجد نفسه وقد ارتدى هو الآخر تلك الثياب وسار معهم في الجنازة كمطيّباتي، كمحب للحياة مقبل عليها. لقد مات السقاء الحقيقي (أي شحاتة) ليولد بدلاً منه سقاء آخر، بالمعنى المزدوج للكلمة. وهذا التبادل هو الفكرة الأساسية التي يطلع بها المتفرج من هذا الفيلم الأخاذ. حقق صلاح أبو سيف هذا الفيلم عام 1977 كما قلنا، وكان واحداً من أفلامه الأخيرة. كما انه كان الفيلم الذي سجل عودة أبو سيف الى الأفلام التي تدور أحداثها في الحارة الشعبية المصرية، هو الذي كان قد غاب، نسبياً، عن هذه الحارة منذ سنوات. لكن الحارة التي عاد اليها هنا بدت - على عكس حارات «الفتوة» و «لك يوم يا ظالم» و «بداية ونهاية» - حارة رمزية ترسم خلفية فكرية لمعالجة «قضية الموت» التي دائماً ما شغلت بال المصريين الذين نعرف، على أية حال، أن من أوائل الكتب التي أنتجتها عبقرية جدودهم الفكرية كتاب الموتى الفرعوني. [email protected]