أولا : قلق ومنازعات وتحديات يستقبل الأدب المقارن القرن الحادي والعشرين " قرن العولمة " بتساؤلات ومجادلات صاخبة حول تحديد منهجه ومنطقه ومنطقته ومستقبله وأدوات بحثه وعلاقاته بالأنظمة الأخرى ولا يكاد يضاهيه في ذلك أي نظام معرفي آخر في دنيا العلوم الإنسانية بوجه خاص ودنيا العلوم بوجه عام .وقد يرجع ذلك إلى حداثة هذا النظام وتفجر الخلافات والنزاعات في داخله وحوله من قبل أن يبلغ رشده ويشتد أزره .ولكن قد يكون ذلك ناجما أيضا عن طبيعة امتداداته المنهجية والمعرفية إلى مختلف أشكال المعرفة المعاصرة بحيث تهتز جذوره وأغصانه بقوة مع الاهتزازات الكبرى التي تتعرض لها الأنظمة المجاورة له عضويا ولاسيما النقد الأدبي ونظرية الأدب .وتدل المؤتمرات الحديثة للرابطة الدولية للأدب المقارن وكذلك الرابطة الأمريكية للأدب المقارن بوجه خاص على قلق بشأن مستقبل هذا النظام المعرفي ومقدرته على التجاوب مع المتغيرات الكبرى للعصر مثل : تفش ي الثقافة التكنولوجية وثورة وسائط الاتصال والكتابة الحاسوبية والنص المفرع والإنترنت والواقع الافتراضي والفضاء الافتراضي وحقوق الملكية الأدبية ومسائل الأيديولوجيا الجمالية المعاصرة وطغيان التخصصات المتداخلة والمتقاطعة " وهي ظاهرة ذات طابع مقارني " وكذلك تأثير الانتشار المذهل للغة الإنجليزية في فعالية الحاجز اللغوي للمقارنة " الذي على أساسه قام الأدب المقارن " وعلاقة الأدب المقارن بالأدب العالمي وأخيرا تأثير الثورة التكنولوجية والمعلوماتية في تدريس الأدب بوجه عام والأدب المقارن بوجه خاص . وتنشر يوميا في الغرب دراسات وكتب تتعرض للأدب المقارن بالنقد الذاتي وتدعو إلى التجاوب مع المستجدات الحديثة وتعرض نظرات أو نظريات متضاربة ومتفاوتة بين التفاؤل والتشاؤم بمستقبله ومن جملة هذه العناوين مثلا مقالة لماري آن كاوس : ما الذي نسعى إليه ? دعوة إلى النقد الذاتي .وأخرى لإيفا كوشنر : هل الأدب المقارن جاهز لاستقبال القرن الحادي والعشرين ومن ناحية الكتب ربما كان الأهم والأشمل هو كتاب كلوديو غيين المترجم إلى الإنجليزية عن الإسبانية : تحدي الأدب المقارن من منشورات جامعة هارفرد .وهو كتاب شمولي يفتح ذراعيه لكل ما يخطر على بال في دنيا الأدب والثقافة تحت عنوان الأدب المقارن . ثانيا : مؤشرات واحتمالات باتجاه المستقبل وانطلاقا من هذا التمهيد الموجز يمكن مناقشة مستقبل الأدب المقارن من خلال الاحتمالات الرئيسية الثلاثة التالية : استمرار حالة الجدل والنقاش والاضطراب حول طبيعة الأدب المقارن وهويته . .-- التحويل الكامل أو شبه الكامل لوظائف النظام المقارن وأهدافه إلى الأنظمة الأخرى المشرئبة للمنافسة التطوير الجذري ولكن ضمن الإطار المسمى بالأدب المقارن . ا النظام- استمرار حالة الجدل حول هوية والاحتمال الأقرب إلى الواقع هو أن تستمر حالة الجدل والنقاش حول طبيعة الأدب المقارن ووظيفته وأهدافه ومصيره على طول المدة المنظورة من سنوات القرن الحادي والعشرين .ذلك أن اختفاء الأنظمة المعرفية أو تغيرها وتحولها تماما مثل انبثاقها وظهورها أمور لا تتم بقرار رسمي أو بضربة حظ أو بخبطة مفاجئة وإنما تتم نتيجة صراعات وتفاعلات وعمليات مخاض صعبة تقررها عوامل داخلية وعوامل إطارية بعضها متعلق بتداخل الأنظمة المعرفية وبعضها متعلق بالإطار الاجتماعي الخارجي أي أن هناك أربع دوائر تتحكم بمصير أي نظام : الدائرة الداخلية أو الذاتية تداخل الأنظمة المعرفية والثقافية وتفاعلها المؤثرات العالمية والتفاعل مع الآخر وذلك كله في دائرة الإطار الاجتماعي الأوسع بالمفهوم العام .وفي حالة الأدب المقارن بالذات يظل للعامل الخارجي النصيب الأوفر من التأثير في مصير هذا التخصص وتطورات طبيعته ووظائفه وأهدافه ونعني بذلك الإطار العالمي سواء من ناحية المناخ العالمي الخاص بالأدب المقارن نفسه أو من ناحية المناخ الأوسع أي المناخ الثقافي والأدبي السائد عالميا ولاسيما في عواصم البث الثقافي المهيمنة لأن له بدوره ضلعا فعالا في تطورات الأدب المقارن في أي بلد من بلدان العالم .وهكذا تستمر وتتعدد المحاولات والتعقيدات التي تدخل في تحديد مصير الأدب المقارن من داخل البيت المقارني وهي بالطبع لا توحي بأية احتمالات من قريب أو بعيد يمكن أن يفهم منها أن هذا النظام المعرفي المهم معرض للانهيار أو الذوبان أو التقلص إلا إنها تميل بقوة إلى التشكيك والسلبيات وبعضها يفتقر إلى الحد الأدنى من الحرص على استمرار النظام . ب .التحول إلى الأنظمة المنافسة على أنه من جهة أخرى لا ينبغي عدم الاستهانة بالمخاطر التي تتهدد استمرار الأدب المقارن من خارج البيت المقارني .إذ تشير الدلائل إلى انه سيبقى عرضة لموجات متعاقبة من المنافسة تطلقها أنظمة تتقاطع معه في المنطق والمنطقة بعضها قديم متأصل متمكن مثل نظرية الأدب " عملاق الأدب كما يسميها ايشتاين " وبعضها حديث متوثب مثل الدراسات الثقافية والدراسات الترجمية وبعضها حديث متعدد الأنظمة ومتشعب الاهتمامات وعريض الادعاءات بحيث ينطلق من منطلقات معرفية وسوسيولوجية أوسع بكثير من منطلقات الأدب المقارن والنظام الأدب بوجه عام مثل النقد البنيوي وما بعد البنيوية والسيميائيات ونظريات ما بعد الحداثة على اختلاف فيما بينها .والملاحظ أن الجيل الجديد نسبيا هو الذي يحمل لواء المعارضة للأدب المقارن ويحاول إما إبداله وإزاحته من قائمة معارف المستقبل وإما تقزيمه وإتباعه للأنظمة المشرئبة كالدراسات الثقافية أو الأنثوية أو الترجمية بل أحيانا لمقرر جامعي اسمه الأدب العالمي وإما - في أحسن الحالات - فتح أبوابه لكل أشكال المقارنات دون شروط أو حدود مما يهدد بضياع شخصيته وكيانه . على أن مثل هذه الدعوات تمثل تحديا قويا ولكنها يصعب أن تكون ذات فاعلية حاسمة ولاسيما في حالة وجود اتجاه ثالث يدعو إلى النهوض بالأدب المقارن وتطويره جذريا بحيث يواكب المتغيرات الثقافية والأدبية في عصر الاتصال والعولمة . ج .التطوير الجذري ولابد أن يكون هذا الاحتمال هو البديل المنطقي لمواقف التشكيك في الأدب المقارن أو الاستبعاد أو حالة الركود ولاسيما في المؤسسة الجامعية خارج الغرب وفي الوطن العربي مع استثناءات قليلة .ويتمثل في اتجاه الأدب المقارن إلى استواء هويته والتغلب على مشكلاته الداخلية وعقباته المنهجية والنظرية وانطلاقه نظاما معرفيا قادرا على تجاوز كهف الآداب القومية ولاسيما المغلق منها وكهف النظام الأدبي المتخلف عادة عن تطورات المعرفة العلمية ومغامرات الممارسة التكنولوجية وكهف الإلغائية والترفع عن الأنظمة المشابهة والمجاورة وأخيرا قادرا على التجاوب مع موجات التفكير الثقافي السائدة عند إطلالة القرن الجديد والتي يلخصها العارفون بالعناوين التالية : العولمة الانفتاح الإعلامي المعلوماتية والحاسوبية التخلص من آثار الكولونيالية الديمقراطية والتعددية تداخل المعارف تداخل الثقافات وأخيرا جدا بروز النظرة الأنثوية للمعرفة من خلال الدراسات الأنثوية . وقد حملت مؤتمرات الأدب المقارن ودراساته ومناقشاته في العقد الأخير من القرن العشرين مؤشرات إيجابية قوية بهذا الاتجاه أي أن المشكلة تجري معالجتها بجدية ويشارك فيها باحثون من الجيل القديم والجيل الحديث ويبدو أن التطورات الثقافية والأكاديمية الراهنة تدفع دفعا بهذا الاتجاه .ولكن هذه الحقيقة ينبغي ألا تدفع إلى الاستهانة بالعقبات الداخلية التي قد لا تجعل التجاوز سهلا وقد تمد من أجل الصراعات والاضطراب . .