جعل الله عز وجل صيام رمضان فريضة يتعين على كل مسلم بالغ عاقل أن يؤديها، وقد أبان الشارع الحكيم عظم الفوائد التي ينطوي عليها صيام رمضان، فقد قال عز من قائل: (وان تصوموا خير لكم ان كنتم تعلمون) وهذه الخيرية الواردة في الآية الكريمة لا تقتصر فقط على الجانب الروحي والنفسي فحسب، بل وعلى الجانب الجسمي والحيوي، بحيث يكون صيام رمضان نشاطا روحيا وجسميا يرتقي بالانسان جسما وروحا.وفي هذه العجالة، سنحاول أن نلقي الضوء على بعض التغيرات الوظيفية والحيوية التي تحدث خلال شهر رمضان الفضيل. التأثيرات الحيوية والفسيولوجية لصيام رمضان لقد أثار صيام شهر رمضان عند المسلمين اهتمام وعناية العديد من الباحثين، الذين رأوا ان في صيام رمضان تغييرا في السلوك التغذوي والمعيشي خلال فترة زمنية محددة تصل الى 29- 30 يوما، وفي فترة زمنية يومية تصل الى 17 ساعة، الأمر الذي يترتب عليه احداث تغييرات فسيولوجية وحيوية في جسم الانسان بسبب طول وانتظام فترة الصيام، حيث تظهر هذه التغيرات في القياسات الفيزيائية للجسم (الأنثروبومترية) ومن اهمها وزن الجسم، وفي مكونات الدم ومن اهمها سكر الدم (الجلوكوز) والدهون وحمض البول. أولا: القياسات الفيزيائية للجسم (الأنثروبومترية) او (القياسات الجسمية):- الوزن: تشير الدراسات التي اجريت على مجموعات من الصائمين أن وزن الجسم قد تغير في نهاية شهر رمضان على شكل زيادة أو نقصان في الوزن مقارنة مع ما كان عليه الحال قبل الشهر او بعده، بنسبة تصل الى -3.6 % و +2.4 % كمعدل للنقصان والزيادة على التوالي. ومن الأسباب التي يعتقد أنها تؤدي الى زيادة الوزن تناول كميات كبيرة من الحلويات الغنية بالدهون والسكريات خلال فترة الافطار، بالاضافة الى الافراط في تناول الطعام بعد فترة الصيام، كما تعزى هذه الزيادة الى بعض الممارسات الخاطئة لدى بعض الصائمين والمتمثلة بكثرة النوم والجلوس وقلة العمل، خلافا لما يجب أن يكون عليه حال المسلم من العمل والعبادة خلال الشهر الكريم.أما نقصان الوزن وهو ما اشارت اليه معظم الدراسات، ونسبته اكبر من نسبة الزيادة في الوزن (-3.6 الى + 2.5 %)، فهو يختلف أيضا باختلاف الوزن الأصلي والجنس وطبيعة العمل والممارسات الغذائية، فمن خلال الدراسة التي اجراها الأستاذ الدكتور حامد التكروري (2) والتي اجريت على ثلاث مجموعات مختلفة الوزن: مجموعة مفرطي الوزن مجموعة المقارنة (ذوي الوزن الطبيعي) مجموعة ناقصي الوزن أظهرت النتائج أن نسبة الانخفاض في الوزن كانت للمجموعة الأولى (مجموعة مفرطي الوزن) اكبر من نسبة الانخفاض في المجموعات الأخرى ( 2.62 كغم للمجموعة الأولى، 2 كغم للمجموعة الثانية، و 0.64 للمجموعة الثالثة)، وقد عزى الباحث ذلك التباين في نسبة الفاقد من الوزن الى عوامل عدة، منها: ان معدل التمثيل الأساسي، وهو أحد مقاييس الطاقة في جسم الانسان، يكون أعلى في حالات الوزن الزائد عما هو عليه في حالات الوزن الطبيعي والوزن المنخفض. أن عمليات الاستقلاب للبروتين داخل الجسم تكون أعلى عند مفرطي الوزن ممن سواهم. ان الأفراد المصابين بزيادة الوزن يستهلكون الطاقة المخزونة في الجسم ( على شكل أنسجة دهنية غالبا) بدرجة أكبر مما عند الافراد الطبيعيين، وهذا بدوره يجعل كمية الوزن المفقود اكبر في نهاية شهر الصوم للأفراد زائدي الوزن عن الأفراد الآخرين. ان هذا الاختلاف في الوزن المفقود يفيد أكثر ما يفيد الأفراد المصابين بالسمنة وزيادة الوزن حيث يساعدهم ذلك على التخلص من الوزن الزائد، وبالتالي التخفيف من حدة مرض السمنة والتقليل من خطر الاصابة بالامراض المرتبطة به مثل أمراض القلب والشرايين وارتفاع ضغط الدم والسكري وأمراض الكلى والمرارة والنقرس وغيرها من الأمراض الخطيرة الملازمة لمرض السمنة، وقد أكدت دراسة علمية نشرت في عام 1993 أن انقاص الوزن بمقدار 4.5 كغم كان كافيا لخفض ضغط الدم عند المصابين بارتفاع ضعيف اومتوسط في الضغط الى المستوى الطبيعي (3). كما أظهرت الدراسة أن معظم النقصان الذي طرأ على وزن الجسم قد حدث في النصف الأول من شهر رمضان، حيث كانت نسبة النقصان في التصف الأول 67% و 70 % من الوزن الكلي المفقود للمجموعتين الأولى والثانية على التوالي، وتشير بعض الدراسات الى ان معدل الفقد في الوزن خلال النصف الأول من الشهر تراوح ما بين 56% و 81 % (1) وسوف نأتي لاحقا على ذكر العامل المسبب لذلك.وقد بينت الدراسة أن الانخفاض في وزن الجسم يتباين تبعا للجنس، حيث كان الانخفاض في الوزن عند الصائمين الذكور أعلى منه عند الاناث، بمقدار 0.34 كغم، أي بنسبة 18.18 % لصالح الذكور، وهذا الامز يتغير تبعا للطبيعة المعيشية والاجتماعية لأفراد المجتمع، فقد أظهرت دراسة أجريت في ماليزيا على مجموعة من النساء الماليزيات المسلمات أن نسبة الفقد في الوزن كانت عند النساء أكثر منها عند الرجال. (4)(1) ويمكن تفسير هذا التغير في الوزن الى أسباب أهمها: نقص الطاقة الغذائية المتناولة:(1) وهي أهم عامل في نقصان وزن جسم الصائم، اذ ان كمية السعرات الحرارية المتناولة يوميا خلال فترة الافطار تحدد نسبة الفقد في الوزن، ففي احدى الدراسات، انخفض معدل وزن الجسم لمجموعة من الصائمين الى 3.6% من وزنهم قبل شهر الصوم، وذلك لانخفاض مقدار السعرات الحرارية اليومية المتناولة بنسبة 22.4% مقارنة مع فترة ما قبل الصوم. ومن المعروف أن بعض الصائمين قد يزداد وزنهم مع نهاية شهر رمضان بسبب تناولهم كميات من السعرات الحرارية تفوق حاجة أجسامهم، خاصة وأن شهر رمضان يتميز بتنوع وكثرة أصناف الطعام في وجبتي الافطار والسحور. نقص السوائل: تشير احدى الدراسات التي اجريت على مجموعة من الصائمين أن معدل تناول الماء والسوائل قد انخفض خلال شهر رمضان بشكل كبير عما كان عليه الحال قبل شهر الصيام، حيث انخفض معدل تناول السوائل من 3.9 لتر / اليوم الى 2.25 - 2.50 لتر/اليوم خلال الشهر، (5)،(1) ويؤدي هذا الانخفاض في كمية السوائل المتناولة الى تغيير في التوزيع الطبيعي للسوائل داخل الجسم أو ما يسمى بتوازن السوائل، والذي يتركز في الاسبوعين الأولين من شهر رمضان، ويستمر حتى بداية الاسبوع الثالث من الصيام حيث يتم تعديل هذا الخلل أو الاضطراب (الناشىء عن الفقد المفاجىء للسوائل داخل الجسم) خلال الأسبوع الثالث، وذلك من خلال عدد من الآليات التي يقوم بها الجسم للحفاظ على محتوى وتوازن السوائل داخله، (5) مثل تقليل كمية البول وزيادة تركيزه من خلال زيادة امتصاص املاح الصوديوم داخل الكلى، وتقليل فترة التبول في كل مرة، وذلك للحد من التأثير السلبي لنقص السوائل المتناولة. وبالرغم من التأثير السلبي لاختلال توازن السوائل داخل الجسم (بسبب انخفاض كمية السوائل المتناولة والتبول)، الا ان له جانب صحي ايجابي، حيث يعتقد انه مسبب أساسي ورئيسي لنقصان الوزن خلال تلك الفترة (وهي النصف الأول من رمضان)، فقد أثبتت العديد من الدراسات أن نقص الوزن خلال تلك الفترة يعزى أساسا الى هذا العامل، كما ان لدرجة حرارة ورطوبة الجو ودرجة الجهد البدني المبذول من قبل الصائم دورا هاما في تحديد درجة جفاف الجسم خلال الصيام (1)،(5). الطاقة المصروفة: ويتم هذا من خلال الجهد البدني المبذول في انجاز الأعمال اليومية، اذ تزداد نسبة الوزن المفقود في نهاية الشهر بزيادة الطاقة المصروفة، حيث تترافق الزيادة في الجهد مع استهلاك كميات اضافية من الطاقة المخزونة في الجسم (والتي تكون اساسا على شكل انسجة دهنية). ففي الدراسة التي اجريت في ماليزيا تبين ان النسوة اللاتي شاركن في الدراسة فقدن وزنا اكثر خلال شهر رمضان بالرغم من انهن كن يتناولن سعرات حرارية اكثر من الذكور خلال الشهر، والسبب في ذلك أن هؤلاء النسوة كن يقمن بأعمال المنزل خلال ساعات النهار، بينما تمتع الرجال بفترة راحة أطول خلال فترة الصيام (4). ومن المعلوم أن شهر رمضان يتسم بنمط مميز من العبادات البدنية كقيام الليل وصلاة التراويح، والتي تتطلب بذل مجهود بدني اضافي، وهو ما يؤدي الى صرف المزيد من الطاقة التي حصل عليها الجسم من وجبة الافطار، الأمر الذي سيعمل على الحد من الزيادة في الوزن بسبب تخزين هذه الطاقة في الجسم، كما أن توقيت هذه العبادة، بعد الافطار بساعة تقريبا، يساعد على هضم هذه الاطعمة وتنظيم عمليات التمثيل للعناصر الغذائية بشكل أفضل (6). وفيما يتعلق بتأثير صيام رمضان على وزن الاطفال حديثي الولادة، فقد أثبتت الدراسات التي اجريت على النساء الحوامل واللاتي يمارسن فريضة الصيام انه ليس لصيام شهر رمضان أي تأثير سلبي على معدل وزن الأطفال حديثي الولادة، وبغض النظر عن فترة الحمل التي حدث خلالها الصيام، بل ان بعض الدراسات التي أجريت على هذه الفئة من الأطفال أظهرت أن معدل الوزن لهذه الفئة كان أكبر عند الأمهات اللواتي مارسن فريضة الصيام خلال فترة حملهن منه عند الأمهات اللواتي لم يمارسن هذ الفريضة (1).ويمكننا أن نستنتج مما سبق أنه وبالرغم من كل الممارسات الخاطئة المتبعة خلال شهر رمضان المبارك، فيما يتعلق بالسلوك التغذوي والمعيشي، الا ان شهر رمضان كان له الأثر الواضح في التقليل من وزن الجسم والمحافظة عليه من الآثار المدمرة للوزن الزائد والسمنة، ولنا ان نتصور كيف سيكون عليه حال الصائم لو حافظ على آداب الصيام وسننه وحرص على تطبيق أهدافه وفلسفته، فعندها ستكون النتائج أعظم والفوائد أعم وأشمل (2). ثانيا: التغير في محتويات الدم كوليسترول الدم وبروتينات الدم الدهنية: أشارت معظم الدراسات التي أجريت على الصائمين أنه لوحظ ارتفاع طفيف في محتوى الدم من الكوليسترول الكلي في نهاية شهر رمضان، وقد نسبت الزيادة الى عاملين أساسيين: السبب الغذائي، حيث أصبح من المعروف أن شهر رمضان يترافقه تنوع الأطباق المتناولة من الطعام وزيادة تناول الدهون والسكريات خلال فترة الأفطار وبالأخص عند وجبة الافطار الرئيسية وبدرجة اقل عند وجبة السحور، وقد اشارت الدراسة التي أجريت على عينة من طلبة جامعة حلب في سوريا خلال شهر رمضان أن معدلات الكوليسترول قد انخفضت في النصف الأول من شهر الصوم حينما تناول الطلبة طعاما قليل الدهن ( 8.8 % من مجموع الطاقة اليومية)، وارتفعت هذه المعدلات حينما تناول الطلبة طعاما غنيا بالدهون خلال وجبتي الافطار والسحور (51.2 % من مجموع الطاقة اليومية) في النصف الثاني من شهر الصيام. لقد اجمع عدد من الباحثين في نتائجهم لبحوث أجريت على اصحاء ومرضى على انه كلما ازداد عدد وجبات الطعام المتناولة في اليوم الواحد كلما انخفض مستوى الكوليسترول في الدم، وكلما نقص عدد وجبات الطعام كلما ارتفعت نسبة الكوليسترول، علما بأنه في الحالتين كانت السعرات الحرارية ثابتة من حيث كميتها، وهذه النتائج قد تفسر الاتجاه الى الارتفاع في محتوى الدم من الكوليسترول عند الصائمين، ذلك لأنهم في الغالب يعتمدون على وجبة رئيسية واحدة وهي وجبة الافطار، وتليها وجبة السحور، ومن هنا يمكننا أن نستنتج الأهمية الصحية والطبية لوجبة السحور، فبالاضافة الى انها تقوي الصائم وتعينه على ممارسة أعماله خلال النهار، فانها تساعد على التقليل من حجم الزيادة في محتوى الدم من الكوليسترول والذي قد تؤدي زيادته بشكل كبير الى بعض الآثار الجانبية والسلبية على الصحة، وخاصة على صحة وسلامة القلب والشرايين، وهذا مصداق لما أخبرنا عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال: "تسحروا فان في السحور بركة". وفيما يتعلق بالبروتينات الدهنية، فهي تنقسم الى نوعين رئيسيين: البروتينات الدهنية عالية الكثافة وهي مصدر للكوليسترول النافع، والبروتينات الدهنية منخفضة الكثافة وهي كذلك مصدر لما يسمى بالكوليسترول الضار (10). فقد أظهرت احدى الدراسات والتي اجراها خمايسة ورفاقه، أنه قد طرأ ارتفاع كبير وملحوظ على محتوى الدم من الكوليسترول النافع وبنسبة تصل الى 31.9 % مقارنة مع محتوى الدم لهذا النوع من الدهون بعد شهر من انتهاء شهر رمضان (بناء على ان الجسم يرجع الى وضعه الطبيعي الذي كان عليه قبل الصيام بعد مرور شهر على صوم رمضان)، لأن كل التغيرات تزول بعد شهر واحد، ما عدا وزن الجسم، وهذا بدوره سيعمل على تقليل نسبة الكوليسترول الكلي الى الكوليسترول النافع وتقليل نسبة النوع الضار الى المفيد في الدم ومن المعروف من الناحية الطبية أنه كلما أنخفضت تلك النسب فان ذلك سيقلل من الاصابة بأمراض القلب وانسداد الشرايين، لما للنوع النافع من دور في ازالة الكوليسترول الضار المترسب على جدار الأوعية الدموية ونقله الى الكبد لتمثيله هناك (11). 2. الجليسيريدات الثلاثية: اظهرت العديد من الدراسات ان معدلات الجليسيريدات الثلاثية في الدم تميل الى الانخفاض بشكل طفيف خلال شهر رمضان كما اظهرت دراسات اخرى ان معدلات الجليسيريدات الثلاثية قد زادت خلال هذه الفترة ويرجع هذا التغير بشكل اساسي الى محتوى الاغذية المتناولة خلال فترة الافطار من المواد السكرية والنشوية (الكربوهيدرات) حيث ان الزيادة في تناول الاغذية الغنية بهذه المغذيات يرتبط بشكل وثيق مع الزيادة في محتوى الدم من هذا النوع من الدهون ولكن وبسبب انخفاض محتوى الطاقة المتناولة خلال شهر رمضان سواء من المصادر الكربوهيدراتية او الدهينة بالنسبة لما قبل شهر الصوم فان معدلات الجليسيريدات الثلاثية تميل الى الانخفاض مع نهاية الشهر ومن الادلة على ذلك انخفاض معدلات الاوزان بشكل عام خلال هذا الشهر (كما اشرنا الى ذلك سابقاً) والتي تعكس انخفاضاً في محتوى الطاقة المأخوذة الامر الذي سيقلل حتماَ من محتوى الدم من هذه الدهون (1) (6) (7).3. التغيرات في محتوى الدم من سكر الجلوكوز: لاحظ الباحثون الذين اجروا فحوصات على محتوى الدم من سكر الجلوكوز ان مستوى هذا السكر يميل الى التغير بشكل طفيف وغير ملحوظ خلال شهر رمضان سواء بالزيادة او النقصان وذلك تبعا لطبيعة الاغذية المتناولة خلال فترة الافطار وخاصة فيما يتعلق بمحتوى الاغذية من الدهون والسكريات فقد لاحظ احد الباحثين ان محتوى الاغذية من الكربوهيدرات والدهون تاثيراً ايجابياً وسلبياً على التوالي لكل منها فيما يتعلق بمحتوى الدم من سكر الجلوكوز.