عندما كانت الساعة تلامس العاشرة مساء الخميس الماضي، كنت أحط الرحال مع أسرتي على شاطئ كورنيش جدة البحري، مقابل قصر المؤتمرات، فيما بدت أمامنا نافورة جدة العملاقة تنفث مياهها بعنفوان شديد نحو السماء في منظر خلاب.. كان المكان يغص بالضجيج وندرة مواقف السيارات وبعض الروائح الكريهة.. لكنني أردت أن أعيش اللحظة بحلوها ومرها خصوصا وأن النزهات التي أقوم بها الى هكذا أماكن هي قليلة بالاصل، والوقت لم يسمح بالانتقال الى مكان آخر، قد لا يكون أفضل حالاً.. ويبدو أن من أراد مثلي أن يتنزه بالمجان على شاطئ كورنيش جدة، فان عليه ان يدفع الثمن من اعصابه، أما من أراد الهدوء فعليه أن يدفع الفاتورة الباهظة في أحد الشاليات.. لكن دعوني هنا أحدثكم عن تلك الأمسية التي عشتها كصحفي، لا كمتنزه؟!! مواقف السيارات عندما أردت أن اتوقف بسيارتي كان علي أولاً أن أبحث عن (خرم أبرة) حتى (أركن) فيه سيارتي، وفوجئت بحشد من الشباب السمر يشيرون لي، كانوا يحملون خرقاً وسطولاً لغسيل السيارات، وأوصى لي أحدهم مشيرا الى موقف صغير بين صف من السيارات المتوقفة في موقف وحيد في تلك المنطقة الواسعة التي مازالت بحاجة الى ثلاث اضعاف تلك المساحة.. وعندما ترجلت من السيارة أنا ومن معي كان المكان المحيط بنا موحلاً، فقد أغرقه غسالو السيارات - أولئك الشبان السمر - بالمياه، ولوثوا الارض تماماً، واصبح من المتعين على كل أحد أن يتحسس موطئ قدميه، تفاديلاً لبرك المياه الصغيرة التي صنعوها في ظل غياب واضح من ملاحقة الجوازات و"الأمانة" لأولئك الغسالين المخالفين. ثم قمت بدس خمسة ريالات في يد ذلك الشاب الذي أوجد لنا موقفاً للسياراة ثمناً لاتعابه، واعتذرت له عن خدمة غسيل سيارتي، وبدأت أولى خطواتي نحو الكورنيش البهي!! صخب الدبابات وبعد أن صرت اقطع نصف الطريق الى حيث المقاعد الأسمنتية التي أقامتها أمانة جدة في ذلك المكان، كان كل ما حولي يضج بالصخب العارم، تماماً كأنني في أضخم حراج للسيارات من حيث الضجيج، فهذه الدبابات ذات الأربع عجلات والمخصصة للتأجير للاطفال والشباب يعج بها المكان وسط هدير محركاتها، ونزق قائدها، وبهلوانيتهم في قيادتها، حتى لتكاد أن ترتطم بكل من يمشي على قدميه، فتحيله الى مشروع مصاب مضرج في دمائه وكسور عظامه.. ضجيج الخيول وهذه الخيول والسيسي والبوني تملأ المكان بقصد تأجير ركوبها للزبائن من صغار السن، وبهذه وتلك اختلط الحابل بالنابل، وتحول المكان الى قطعة من القلق والهلع والعذاب، بدلاً من لحظات من الراحة واستنشاق كبير هواء البحر، والراحة في جوف ليل الشاطئ.. ولم يكن هناك أثر لاية جهة رسمية تمنع ذلك الهرج والمرج (وبالمناسبة فإن تلك المشاهد التراجيدية تمتد شمالاً الى مسافة بعيدة، وجنوبا حتى قرب المبنى الرئيسي لأمانة جدة).. بمعنى أن ما يجري من فوضى على الشاطئ هو تحت سمع وبصر المبنى الأنيق ذو ال18 طابقاً لأمانة جدة، دون أن يكون لاي عضو من الأمانة دور يذكر في تلك الأمسية الصاخبة.. استئجار الدباب إبني الصغير عمر صاحب ال10سنوات أصر على ركوب إحدى الدبابات، ولم يكن أمامي وأنا وسط (الحفلة) إلا ان أذعن لطلب الصبي الذي يريد اشباع حاجة ذاتية لديه أولا، ويحاكي انداده في تلك الامسية، فاستأجرنا له دباباً بعشرة ريالات ل(4) لفات في مكان غير واسع.. واستثمرت المناسبة فرحت أحاور عدد من أصحاب تلك الدبابات فماذا قالوا: - الساعة على الدباب للصغير ب(150) ريالا وللرجل الكبير أو الشاب بمبلغ 180 ريالاً. - الدباب لا يمكن لمن يستأجره أن يذهب به بعيداً، أو يحاول سرقته، لاننا لنا زملاء في كل مكان على الشاطئ. - جميعنا يعرف دبابات بعضنا البعض، وهذه المعرفة طوق نجاة تحمي دباباتنا من أن يفلت بها أي أحد. - حتى ولو غاص به في عمق الحي أو الأحياء الاخرى (نحن قادرون ذاتياً على استعادته بطريقتنا). كانوا في واقع شباب سمر من مفتولي العضلات، وعدد منهم يبدو للوهلة الاولى كمصارع عملاق، أو لاعب كمال اجسام، ولهم هيئات قوية، وتربطهم معرفة فيما يبدو ببعضهم البعض. تأجير السيسي ولم يكتف إبني عمر بركوب الدبابات بل أوغل في عناده واصر على إمتطاء أحد الخيول، غير أنه ركن الى شرطي بالموافقة، أن يكون المطلوب حصاناً صغيراً، وبعد أن فرغ من مهمته، دخلت في حوار مع صاحب الحصان الصغير.. - قال: إن هذا ليس حصاناً صغيراً، هو "سيسي". - وقال: هنا يوجد الحصان (وهو كبير الحجم) ثم الأقل منه "البوني" ثم الأصغر منه "السيسي". - السيسي الواحد سعره عشرة آلاف ريال تقريباً، ودخله اليومي (الخميس أو الجمعة) أكثر من مئتي ريال على الأقل. - نحن قادمون من حي الخمرة جنوبجدة.. هناك يتم اسكان هذه الحيوانات في حظائر خاصة، وننقلها إلى هنا بسيارة "ديّنا" تقف في حي الرويس (يبدو إنها عملية محكمة تحسباً لاية طوارئ) ثم نقتادها الى الشاطئ، ونؤجرها إلى الزبائن. - دوامنا يوم الخميس والجمعة من بعد صلاة المغرب، إلى الرابعة من صباح اليوم التالي، حيث نعود بها إلى حي الرويس، وهناك تنتظرنا نفس (الديّنا) لتعود بنا الى الحظائر في حي الخمرة جنوبجدة. - نعم معي صديق وهو أخي الشقيق ومعه "سيسي" خاص به، ويعمل عليه في مكان شمال هذا المكان (أشار إليه بيده) ونأتي معه مع عدد من رفاقنا ونعود سوياً.. وأنا عندي إقامة لكن كثيرين غيري مخالفين للإقامة. - أنا بالأصل طالب ادرس في مدرسة متوسطة بحي الهنداوية، وجنسيتي تشادي، وهذا عملي يوم الخميس والجمعة. - البلدية أحياناً تطاردنا ولكننا في كثير من المرات نفلت من قبضتها، وقد كنا في السابق "نبيّت" حيواناتنا في قصر مهجور في حي الرويس، حتى اكتشفته البلدية، فصرنا نذهب بها إلى حي الخمرة البعيد عن الانظار. أين البلدية؟ وعلى مدى أكثر من ساعتين ونصف ضللت هناك على الشاطئ، وسط ذلك الصخب الهائل، والضجيج الذي لا ينتهي، وذلك العذاب الذي سببته الدبابات والخيول والسيسي للمتنزهين وأسرهم وأطفالهم، دون أن أرى أية جهة رسمية يمكن لها أن توقف ذلك المسرح الهزلي، وتحديداً البلدية التي غابت.. وضللت اتساءل: إذا لم تحضر البلدية في ذلك الوقت، وتلك الأمسية (مساء الخميس).. فمتى يكون لها حضور؟ ثقة غريبة ولفت انتباهي تلك الثقة الكبيرة التي كان يتحلى بها أولئك الشبان السمر، وهم يؤجرون دباباتهم وخيولهم وحيواناتهم للزبائن، وضحكاتهم ومرحهم وأصوات قهقهاتهم العالية، والتي تؤكد أنهم يعيشون ثقة كبيرة بالنفس، غير مكترثين بأية جهة سواء أمانة جدة أو غيرها في أن توقف ما يقومون به من صخب وضوضاء على الشاطئ.. نزهة مزعجة كنت في واقع الأمر أتميز من الغيظ لتلك المشاهد المزعجة، وأمط شفتي واحرك راسي يميناً وشمالاً عجباً ودهشة مما هو أمام عيني.. إلى أن لمحت عقارب ساعاتي تقترب من منتصف الليل، فهولت إلى سيارتي مع أسرتي، لنقذف بانفسنا فوق مقاعدها هرباً من ذلك الضجيج، ولنحرر أنفسنا من ذلك الصخب الهائل، بعد أن كنا نمني النفس بجلسة هادئة على ضفاف الكورنيش البحري، في راحة وسكون ودعة، لكن يبدو أن لامانة جدة وغيرها رأي آخر في أن يظل ذلك المكان كما رأيته، إلى أن يأذن الله بتبديل أحواله، فقد قطعت وعداً مع نفسي بأن لا أكرر التجربة، وإن كان ولابد ففي إحدى منشأت القطاع الخاص على البحر، لكن بعد أن أدفع "الشيء الفلاني"!!