ثمة شبه إجماع بين كافة المراقبين السياسيين، العرب منهم على الأقل، أن الدوافع السياسية هي الأساس الذي يستتر خلفه طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية " لويس مورينو أوكامبو " إلى دائرة ما قبل المحاكمة - إحدى أجهزة المحكمة الجنائية الدولية - إصدار أمر بالقبض على الرئيس السوداني عمر البشير واتهامه بالمسئولية عن جرائم حرب ارتكبت في دارفور . لكن ذلك الإجماع على وجود دوافع سياسية لم يقابله إجماع مماثل على العديد من الجوانب القانونية المرتبطة بعمل المحكمة الجنائية، ولاسيما ما يتعلق منها بتحديد ولاية المحكمة، أو على من تمارس اختصاصاتها، وهل ثمة أشخاص يتمتعون بحصانة قانونية ضد المساءلة أمام المحكمة أو توقيع عقوبة عليهم، لذا فإنه من المفيد إلقاء الضوء على بعض النصوص القانونية التي تحدد طبيعة عمل المحكمة في هاتين النقطتين تحديدا . طالع : نص اتهام مدعي المحكمة الجنائية ضد البشير قبل الشروع في ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن المحكمة الجنائية الدولية أنشئت وفقا لأحكام نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي تعود تسميته إلى اعتماده في روما في 17 يوليو 1998، من قبل مؤتمر الأممالمتحدة الدبلوماسي للمفوضين المعني بإنشاء محكمة جنائية دولية، ونظام روما هو معاهدة دولية ملزمة للدول التي أعربت عن موافقتها على الالتزام بأحكام هذه المعاهدة . وبالتالي أصبحت هذه الدول " أطرافا " في نظام روما الذي بموجب أحكامه دخل حيز التنفيذ في الأول من يوليو 2002 بعد أن انضمت إليه 60 دولة، وقد أصبح اليوم عدد الدول الأطراف في نظام روما 104 دول . ووفقا لما ورد في ديباجة هذا النظام الأساسي، لا تدعي المحكمة التدخل في الشؤون الداخلية للدول حيث تشير الديباجة إلى أنه " لا يوجد في هذا النظام ما يمكن اعتباره إذنا لأي دولة طرف بالتدخل في نزاع مسلح أو في الشؤون الداخلية لأية دولة " ، كما تؤكد أن " المحكمة الجنائية الدولية المنشأة بموجب هذا النظام الأساسي ستكون مكملة للاختصاصات القضائية الجنائية الوطنية " . ولاية المحكمة وبعد أن تناول الباب الأول نشأة المحكمة في المواد من 1 إلى 4، جاء الباب الثاني تحت عنوان : الاختصاص والمقبولية والقانون الواجب التطبيق، حيث تعدد المادة 5 الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، وتنص في الفقرة 1 على الآتي : " يقتصر اختصاص المحكمة على أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، وللمحكمة بموجب هذا النظام الأساسي اختصاص النظر في الجرائم التالية : ( أ ) جريمة الإبادة الجماعية .( ب ) الجرائم ضد الإنسانية .( ج ) جرائم الحرب .( د ) جريمة العدوان " ، وتفصل المواد من 6 إلى 8 أنواع الجرائم الثلاث الأولى . أما جريمة العدوان فقد أشارت الفقرة 2 من نفس المادة إلى أن المحكمة تمارس الاختصاص على جريمة العدوان متى اعتمد بهذا الشأن ما يعرفها، ويضع الشروط التي بموجبها تمارس المحكمة اختصاصاتها فيما يتعلق بهذه الجريمة، ويجب أن يكون هذا الحكم متسقاً مع الأحكام ذات الصلة من ميثاق الأممالمتحدة . ومغزى ذلك أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية لم يضع كسائر الجرائم الأخرى تحديدا دقيقا لها، وتركه للتشاور بين الأعضاء وفقا للمادتين 121 و123 من هذا النظام الأساسي، والمتعلقين بالتعديلات التي قد تدخل على بعض نصوص النظام الأساسي، وبقيام الأمين العام للأمم المتحدة بعد انقضاء سبع سنوات على بدء نفاذ هذا النظام بعقد مؤتمر استعراضي للدول الأطراف للنظر في أية تعديلات عليه . وبرغم أن المادة 4 فقرة ) 2 المركز القانوني للمحكمة وسلطاتها ) تنص على أن " للمحكمة أن تمارس وظائفها وسلطاتها في إقليم أي دولة طرف، ولها بموجب اتفاق خاص مع أي دولة أخرى أن تمارسها في إقليم تلك الدولة " ، فإن نصوصاً أخرى في المعاهدة تؤكد أن دولا غير أطراف قد تدخل في نطاق اختصاصات عمل المحكمة . ففي الباب الثاني ( الاختصاص والمقبولية والقانون الواجب التطبيق ) تنص المادة ) 13 ممارسة الاختصاص ) على أن " للمحكمة أن تمارس اختصاصاتها فيما يتعلق بجريمة من الجرائم المشار إليها في الفقرة 5، في الأحوال التالية : أ ) إذا أحالت دولة طرف إلى المدعي العام وفقا للمادة 14 حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت، وهنا تقول المادة 1 / 14 بأنه يجوز لدولة طرف أن تحيل للمدعي العام أي حالة يبدو فيها أن جريمة من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة قد ارتكبت، وأن تطلب إلى المدعي العام التحقيق في الحالة بغرض البت فيما إذا كان يتعين توجيه الاتهام لشخص معين أو أكثر بارتكاب تلك الجرائم . ومغزى هذين النصين أنه يجوز لدولة طرف أن تطلب من المدعي العام البت في حالة ما، دون اشتراط أن تكون هذه الحالة حادثة في دولة طرف بالمعاهدة أو ليست طرفا فيها . ب ) إذا أحال مجلس الأمن، متصرفا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت ( وهو ما حدث في قضية دارفور التي أحالها مجلس الأمن إلى مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية بموجب القرار رقم 1593 لعام .) 2005 ج ) إذا كان المدعي العام قد بدأ بمباشرة تحقيق في جريمة من هذه الجرائم وفقا للمادة .15 وتنص هذه المادة ) ) 15 فقرة 1، على أن " للمدعي العام أن يباشر التحقيقات من تلقاء نفسه على أساس المعلومات المتعلقة بجرائم تدخل في اختصاص المحكمة " . وتنص الفقرة 3 من هذه المادة على الآتي : " إذا استنتج المدعي العام أن هناك أساسا معقولا للشروع في إجراء تحقيق، يقدم إلى دائرة ما قبل المحكمة طلبا للإذن بإجراء تحقيق، مشفوعا بأي مواد مؤيدة يجمعها، ويجوز للمجني عليهم إجراء مرافعات لدى دائرة ما قبل المحاكمة وفقا للقواعد الإجرائية وقواعد الإثبات " . وتتحدث المادة 12 عن الشروط المسبقة لممارسة الاختصاص؛ حيث توضح حالات ثلاثة لدول يقع عليها ممارسة الاختصاص، وهي : - 1 الدولة التي تصبح طرفا في هذا النظام الأساسي . - 2 حالتا الفقرة أ وج من المادة 13، أي إحالة دولة طرف حالة إلى المدعي العام، أو أن يكون هو بدأ مباشرة في التحقيق، ففي هاتين الحالتين تمارس المحكمة اختصاصاتها على الدولة الطرف أو الدول الأطراف في النظام الأساسي للمحكمة، وهنا يقع اختصاص المحكمة في الدولة التي وقع في إقليمها السلوك قيد البحث أو دولة تسجيل السفينة أو الطائرة إذا كانت الجريمة قد ارتكبت على متن أحدهما، وعلى الدولة التي يكون الشخص المتهم بالجريمة أحد رعاياها . - 3 حالة القبول الإلزامي، وهنا تنص المادة 3 / 12 على الآتي : " إذا كان قبول دولة غير طرف في هذا النظام الأساسي لازما بموجب الفقرة 2 من المادة ) 13 الإحالة من مجلس الأمن ) ، جاز لتلك الدولة - بموجب إعلان يودع لدى مسجل المحكمة - أن تقبل ممارسة المحكمة اختصاصاتها فيما يتعلق بالجريمة قيد البحث، وتتعاون الدولة القابلة مع المحكمة دون تأخير أو استثناء " . ويفهم من نص هذه الفقرة أن ثمة حالة يتم فيها القبول الإلزامي بممارسة المحكمة لاختصاصاتها، لكن يجوز للدولة أن تقبل بذاتها ذلك الاختصاص بإيداع إعلان لدى سجل المحكمة بقولها ذلك، ولا يعني ذلك أن تستثنى الدولة التي لا تقبل إيداع مثل هذا الإعلان من أن تقع تحت اختصاصات المحكمة، والتي تم تكليفها من مجلس الأمن الدولي بموجب الفصل السابع . ويؤكد ذلك المادة 2، والتي تنص على الآتي : " تنظم العلاقة بين المحكمة والأممالمتحدة بموجب اتفاق تعتمده جمعية الدول الأطراف في هذا النظام الأساسي ويبرمه بعد ذلك رئيس المحكمة نيابة عنها " . هل من حصانة لأحد؟ تحدث الباب الثالث من النظام الأساسي عن المبادئ العامة للقانون الجنائي وذلك في المواد من 22 إلى 33، وتشير المواد 22 و23 و24 إلى أنه : لا جريمة إلا بنص، ولا عقوبة إلا بنص، وإلى عدم رجعية الأثر على الأشخاص، أي لا يسأل الشخص بموجب هذا النظام الأساسي عن سلوك سابق لبدء نفاذ النظام . وتفصل المادة 25 المسئولية الجنائية الفردية، أي وقوع اختصاص المحكمة على الأشخاص الطبيعيين، والحالات المختلفة التي يكون فيها الشخص مسئولا عنها بصفته الفردية وعرضة للعقاب . وتشير المادة 26 إلى أنه لا اختصاص للمحكمة على الأشخاص الذين كان عمرهم أقل من 18 عاما وقت ارتكاب الجريمة . أما المادة 27 فجاءت تحت عنوان : ( عدم الاعتداد بالصفة الرسمية ) ، وتنص على الآتي : - 1 يطبق هذا النظام الأساسي على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون أي تمييز بسبب الصفة الرسمية وبوجه خاص؛ فإن الصفة الرسمية للشخص، سواء كان رئيسا لدولة أو حكومة، أو عضوا في حكومة أو برلمان، أو ممثلا منتخبا، أو موظفا حكوميا، لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسئولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي، كما أنها لا تشكل في حد ذاتها سببا لتخفيف العقوبة . - 2 لا تحَُول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص، سواء كانت في إطار القوانين الوطنية أو القانون الدولي، دون ممارسة المحكمة اختصاصاتها على هذا الشخص . ويفهم من ذلك أن النظام الأساسي للمحكمة واجب التطبيق على ما سواه في سائر المواثيق الدولية فيما يتعلق بالحصانة الخاصة بالرؤساء والمسئولين وسفراء الدول . وهذا ما سعت المادة 10 إلى توضيحه بداية حين نصت على الآتي : " ليس في هذا الباب ( الباب الثاني حول اختصاصات المحكمة ) ما يفسر على أنه يقيد أو يمس شكلا من أشكال قواعد القانون الدولي القائمة أو المتطورة المتعلقة بأغراض أخرى غير هذا النظام الأساسي " . وتأتي المادة 26 من الباب الثالث تحت عنوان ( مسئولية القادة والرؤساء الآخرين ) حيث تتحدث الفقرة ( أ ) منها على مسئولية القائد العسكري أو الشخص القائم بأعمال القائد العسكري الجنائية عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمرتكبة من جانب قوات تخضع لإمرته وسيطرته الفعليتين، نتيجة عدم ممارسة هذا القائد العسكري أو الشخص سيطرته على هذه القوات ممارسة سليمة، وتقدم حالتين لهذه الممارسة غير السليمة، هما : أن يكون قد علم، أو يفترض أنه قد علم، بسبب الظروف السائدة في ذلك الحين، بأن القوات ترتكب أو تكون على وشك ارتكاب هذه الجرائم، وإذا لم يتخذ جميع التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطته لمنع ارتكاب هذه الجرائم . أما الفقرة ( ب ) من هذه المادة فتتحدث عن علاقة الرئيس والمرءوس غير الوارد وصفها في الفقرة السابقة، وتنص على الآتي : " يسأل الرئيس جنائيا عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمرتكبة من جانب مرؤوسين يخضعون لسلطته وسيطرته الفعليتين؛ نتيجة لعدم ممارسة سيطرته على هؤلاء المرءوسين ممارسة سليمة " . وتعدد الفقرة حالات هذه الممارسة غير السليمة في حالات محددة هي : - 1 إذا كان الرئيس قد علم أو تجاهل عن وعي أي معلومات تبين بوضوح أن مرءوسيه يرتكبون أو على وشك أن يرتكبوا هذه الجرائم . - 2 إذا تعلقت الجرائم بأنشطة تندرج في إطار المسئولية والسيطرة الفعليتين للرئيس . - 3 إذا لم يتخذ الرئيس جميع التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطته لمنع أو قمع ارتكاب هذه الجرائم، أو لعرض المسألة على السلطات المتخصصة للتحقيق والمقاضاة .