قلقت أم أحمد على تأخر ولدها عن موعده المعتاد، كان من عادته أن يأتي مبكرا ليساعدها على جمع بضاعتها التي تحتل مساحة صغيرة من الأرض، بجانب إحدى أشجار النخيل التي تنتشر سامقة على امتداد ( الكورنيش ). لملمت أشياءها.. جمعت بضاعتها.. ووضعتها في صندوق حديدي كبير يصعب حمله، ربطته بسلسلة قوية في تلك النخلة، وأحكمت إغلاق الصندوق بقفل كبير.. سيأتي ابنها ليقلها بسيارته إلى المنزل، فقد انتهت فترة عملها المسائي التي امتدت من الرابعة إلى العاشرة ليلا، وهي الفترة الأشد ازدحاما في ( الكورنيش ) عندما يقبل الناس على ما تعرضه في ( بسطتها ) من ألعاب الأطفال، وبعض أدوات الزينة للنساء، وبعض الصناعات التقليدية الصغيرة.. وعبوات الماء البلاستيكية التي وضعتها في حافظة مليئة بمكعبات الثلج.. وفي انتظار ابنها جلست فوق صندوق بضاعتها، وأرسلت نظراتها إلى البحر لتشاهد بشيء من الكدر.. انعكاس أنوار المصابيح الكهربائية المنتشرة على امتداد ( الكورنيش ) بأعمدتها العالية، وألوانها الزاهية، وارتعاشات أضوائها على صفحة مياه البحر في مده وجزره المضطربين.. شعرت بنسمة من الهواء البارد تمر على وجهها لتجفف العرق الذي أحست أن جسمها الأسمر المكتنز ينضحه بشكل تعودت عليه في مثل هذا الشهر الصيفي الحار، حين تتحالف الحرارة والرطوبة لمضايقة الناس، فيهربون من بيوتهم إلى ( الكورنيش ) حتى ليخيل للناظرين أن المدينة قد خلت من سكانها، وتوجهت برمتها إلى ( الكورنيش ) للابتراد والاستجمام، وفي هذا الجو تجد أم أحمد فرصتها الذهبية لتسويق بضاعتها.. على الأطفال والنساء، وهواة المشي من الجنسين، وبعض الأجانب الذين تستهويهم الصناعات التقليدية. لم يكن البحر سوى رفيق لها، تفتحت عيناها على مرآه، واحتضنت ذكرياتها الكثير من قصصه وحكاياته التي كانت تسمعها من جدها وهي لم تزل طفلة.. وهو يحكي لأصدقائه ألوانا من أهوال لقيها في رحلات الغوص، كانت ترى البحر صباح مساء يوم كان منزل أسرتها في حي الدواسر المشرف على السيف مباشرة، قبل أن يرحل البحر بعيدا إثر عمليات الدفن المتواصلة.. كبرت وكبرت معها الأحلام، تزوجت ابن خالتها، ولم يلبث المرض أن انتزعه منها، وهي في بداية حملها، وعندما ولدت أحمد نذرت نفسها له، بعد أن يئست من احتمالات الزواج الثاني.. أحمد قرة عينها، ونور حياتها، وبهجة عمرها.. سندها في الحياة.. الندى الذي بلل عواطفها التي كادت أن تجف بعد رحيل زوجها.. ها هو في عمر الرجال.. لكنها تعامله كما يعامل الطفل.. تخشى عليه من الزواج كما تخشى عليه من عدوى الأمراض الخطيرة.. لم يكن نصيبه من التعليم سوى القليل، فأتاح له ذلك وظيفة متواضعة في إحدى الإدارات الحكومية، بينما التحقت هي بوظيفة مستخدمة في إحدى مدارس البنات، وشغلت نفسها في المساء ببسطتها في ( الكورنيش ).. أصبح أحمد عالمها الوحيد بعد رحيل كل أقاربها. لا تزال بانتظار ابنها الذي لم يتعود التأخر عن موعده، فما الذي أخره؟ عاودت النظر إلى البحر بروح يجتاحها القلق.. خيل إليها أنه حزين لحزنها، مكتئب لاكتئابها، وقد اضطربت أمواجه، وبدأت تضرب بعنف الحاجر الإسمنتي الذي يحاصره بامتداد ( الكورنيش(. نظرت إلى ساعتها فإذا هي قد تجاوزت العاشرة بعشرين دقيقة، وهذا أمر مستغرب! ترى أي خطب حل به، أو بسيارته ( العراوي )؟ لاحظت في الأيام الأخيرة أنه يبدو شارد الذهن.. مشتت التفكير.. قليل الكلام.. حاد المزاج.. قررت أن تفاتحه حول ما طرأ على سلوكه من تغير.. صارحته بشكوكها في سلوكه.. واتهمته بمرافقة قرناء السوء.. تفاجأ وقال: لا يذهب بك الظن بعيدا يا أمي.. كل ما في الأمر أنني أفكر في نفسي، ها قد بلغت الخامسة والثلاثين ولم أتزوج بعد! متى سأتزوج؟ هذا سؤال يزعجني يا أمي!! ومع أنها تكره الحديث في هذا الموضوع تحديدا، لكنها أرادت أن تطيب خاطره وكأنما أذابت كلماته جليد الإصرار على بقائه لها وحدها دون شريك، فقالت له بصوت يغلب عليه الحنان: لا بأس عليك يا وليدي.. سأبحث لك عن بنت الأجاويد. وضحك وهو يقول: بنت الأجاويد لن ترضى بي، فليس فيّ أو لدي ما يغريها. دع الأمر لي وسأفاجئك بالأنباء السارة قريبا.. كن مطمئن البال. كانت تعارض زواجه، أما وقد آلت حاله إلى هذا المستوى من التدهور، فلا بد لها من الخضوع.. فكرت جديا في البحث عن زوجة لابنها، زوجة ترضى بالعيش معها، فلا طاقة لها على فراقه.. هي تعرف إحدى الموظفات في إدارة المدرسة التي تعمل بها.. أكبر منه سنا، وطالما شكت لأم أحمد حظها العاثر.. السنين تمضي.. العمر يتقدم.. ولم يتقدم أحد لطلب يدها! هكذا كانت تشكو حالها لأم أحمد التي رأت أن كل هذه العوامل في صالح ابنها، ولا تظن أنها ستعارض الزواج منه، بل إنها توصلت إلى نتيجة شبه مؤكدة لديها.. هي أن هذه الشكوى دعوة مبطنة بالرغبة في الزواج من أحمد، الذي يعرفه كل من يعرف أم أحمد لكثرة حديثها عنه! ترى ما سبب تأخره؟ بدأ القلق يجتاحها.. شعرت بغصة في حلقها.. بدا نفق الانتظار مظلما أمامها. يئست من قدومه وقد شارفت الساعة على الحادية عشرة.. لجأت إلى هاتفها المحمول، وبصوت متهدج ارتاعت له جارتها، طلبت منها أن ترسل سائقهم ليوصلها إلى المنزل، بعد أن أخبرتها أن أحمد تأخر دون أن تعرف السبب!. ولم تنم ليلتها قلقا على ابنها. مع بواكير الصباح وصلتها الأخبار.. أغمي عليها.. نقلت إلى الإسعاف لتدخل العناية المركزة إثر إصابتها بنوبة قلبية.. كان أحمد قد فارق الحياة، وهو في الطريق إليها، عندما تعرض لعيارات نارية طائشة، أطلقها أحد الإرهابيين، في مطاردة مع رجال الأمن.