كثيرون هم الذين جربوا الإلحاد.. وكثيرون هم الذين جربوا الأديان خارج العقيدة الإسلامية منهم من كان مسلماً.. ومنهم من ولد على ديانة لا تنتمي إلى الإسلام .. وهنا لن أذهب إلى مراحل التاريخ وما صاحب العصور القديمة من صراع ما بين الإسلام السياسي وبناء الدولة الدينية أو اللادينية. غير أن ما يعنينا هنا هو الجدل القائم في الزمن الحديث الذي لا يمكن إغفال امتداداته وتقلباته ومزجه بحجم التجارب الفكرية وقناعاتها في نهاية المطاف. قلت إنني لن أذهب إلى عصور التاريخ .. وأضيف هنا أيضاً: أنني لن استند إلى المخرجات العقائدية في الأديان لكنني سأقف على مشهد المرحلة من خلال السجال الفكري الحد يث في جانبه المجتمعي. وأطرح نموذجين من رموز الفكر العالمي. هما الدكتور مصطفى محمود من مصر. والدكتور روجيه جارودي من فرنسا. وكلاهما عملاقان لم يأخذ أماكنهما أحد على منبر الفكر في العصر الحديث. الأوّل خرج من الإسلام إلى الإلحاد وألف كتباً أوغل فيها بالكثير من قناعات الإنكار والتحريض مستخدماً أدوات لا تقل خطورة عن أسلحة الدمار الشامل في قدرتها على اختراق عقول الناس خاصة أولئك الذين مازالوا في مقتبل العمر أو البسطاء من الذين لا يتمتعون بقوة الإيمان. غير أنه بعد فترة من التأمل ما بين «العلم والإيمان» عاد ليربط القرآن بفلسفة الحياة ومحدداتها ومرجعية مخلوقات الكون. ليعلن العودة إلى الله ويتحول من ملحد إلى عالم لخدمة الدين إلى أن توفاه الله. ومن باريس كان الفيلسوف العالمي روجيه جارودي قد تنقل في أكثر من رحلة دينية حيث اعتنق اليهودية ثم النصرانية ثم الماركسية.. وفي كل ديانة أصدر العديد من الكتب والمحاضرات. لكن جارودي لم يجد نفسه بعد الستين عاماً في كل هذه العقائد التي لم تفض إلى قناعاته حين يقرأ واقع الحياة وصراع الأديان .. ومن ثم بدأ يتأمل الفلسفة الإسلامية التي قادته إلى اعتناق الإسلام وأصدر كتابين لخدمة الدين الإسلامي . معلناً ومعترفاً أن كل مسيرته في الأديان الأخرى لم تعطه ما كان يريد من ضمانات لمنهج الحياة . وبالتالي فإن ما قادني إلى الحديث عن هذين النموذجين العملاقين في الفكر العالمي الحديث. هو صعود الخطاب الديني في المشهد السياسي . وحجم التأييد بعد الثورات العربية الذي يؤكد أنه لم يأت من فراغ فكري بقدر ما انطلق هذا التأييد من تجارب شعوب عاشت لفترة طويلة خارج مرتكزات العقيدة الإسلامية في منظومة الحكم وتشريعاته الدستورية . في حين يُقابل المشهد بالعديد من الآراء في وسائل الإعلام العربي والدولي ترسم معظمها صوراً متعددة ومتناقضة لمستقبل الإسلام السياسي الذي يعني تحولا ينطلق من خلاصة تجارب وقناعات فكر أفراد وأمم يرون أن العودة إلى الله هي طوق النجاة. غير أن هذا التحول لم يكن منهجياً صحيحاً في محاوره وأهدافه ولم يكن مرتبطاً بمخرجات عقائدية تنطلق من القرآن والسنة طبقاً لقناعات المفكرين الكبار الذين خاضوا التجربة. بقدر ما برز خطاب منحرف لم تشرعه الثوابت لمصلحة المسار الحقيقي للأمة الإسلامية بقدر ما كان سلاحاً ضد العقيدة نفسها. حيث قاد محاولة التغيير عقول خاوية وغير واعية. ليكون الإرهاب هو العنوان الحقيقي لممارسة ذلك الخطاب المنحرف. وهو ما أعاق الدعوة في عالم اليوم عند الآخر مهما حملت من مضامين منهج الاعتدال. وذلك من خلال مشهد مؤلم واجه نظرة الشمولية.. وقد كان ومازال السبب هو أن الذين قادوا ذلك الخطاب المنحرف لم يكونوا أصحاب فكر يمتلك فلسفة ثقافية دينية بقدر ما كانوا ينطلقون من انتماءات حزبية تهدف إلى السلطة بورقة دينية استهدفت صغار السن والبسطاء. فكانت الكارثة التي وان انحسرت مؤخراً. لكنها تحتاج إلى حملة لتصحيح مسار الدعوة لفترة طويلة تستطيع مصادرة "لعنة" التجربة المتطرفة ومصادرة آثارها بالعمل على تكريس منهج الاعتدال. على أن حوار الأديان يحتاج إلى إعادة الطرح والتفعيل وهو المشروع الذي يمكن من خلاله إزالة ما علق بالإسلام من تشويه سوف يدفع المسلمون ثمنه لفترة طويلة من الناحية العقائدية والإنسانية أمام الآخرين في صراع لا ينتهي من ذاكرة التاريخ .