يتابع الناقد السعودي عبدالله الغذامي في كتابه الجديد "القبيلة والقبائلية" أو "هويات ما بعد الحداثة" الصادر مؤخراً، أبحاثه في ما يعرف بالنقد الثقافي، ويبحث من جهة أخرى في فشل الحداثة والنظرة إلى ما بعدها؛ تلك المابعدية التي تعد أكثر بالمساواة والعدل بعيداً عن التخبطات والانهيارات. يفرق الغذامي في كتابه بين القبيلة والقبائلية؛ فالقبيلة هي تعبير محايد وقيمة اجتماعية وثقافية واقتصادية نشأت لضرورة معايشة، أما القبائلية فهي مصطلح غير محايد وانحيازي وعرقي يقوم على الاقصاء والتمييز، ومن خلال هذا التعريف ينطلق الغذامي إلى البحث في سيرة النسق الثقافي والتاريخ البشري. ويرى الغذامي أن هويات ما بعد الحداثة هي عودة إلى القبيلة والى الانتصار إلى الاقليات، ويكشف عن أن أزمنة الحداثة كشفت لنا، من حيث لم ترغب، عن ويلات وحروب وخسائر، فقادت إلى ما يسميه انكسار الحلم والخيبة في حين وعدت بالعقلانية والليبرالية، وهذا ما جعل ما بعد الحداثة انتاجا جديدا للهويات تلك. أسباب الانبعاث يعتقد الغذامي أن تلك العودة لم تختص بعالمنا العربي فقط، بل حدثت أيضاً في أميركا وأوروبا على حد سواء. أما الأسباب التي بعثت هذه الأصوليات من جديد فهي: الخوف ببعده الأسطوري الجديد وسقوط الطبقة الوسطى وما تمثله من رمزيات وقيم حداثية سياسية واقتصادية، وانهيار المشروع الكوني في التعليم مع تلاشي الوعد الكبير بالتعليم كمنقذ، ونسقية الثقافات من حيث الأصل والتكوين مما يجعل النسق في حالة تربص دائمة ينقض متى ما حانت له الفرصة، ثم وفيما يشبه استعراض المرحلة الحداثية بصدد هويات ما بعد الحداثة يناقش الغذامي وينسف بعض المفاهيم ويقومها. ويعالج الكتاب بعض مفاهيم القبلية معرجاً على منهجياتها، مؤكداً أنه لو لم يكن هناك قبيلة ومذهب وطائفة لقام غيرها مقامها كمصدر للتفاضل والتمييز. ويطرح المنظومة النسقية والرمزية الأولى (حسب - نسب) باعتبارها قيمة من قيم ما بعد الحداثة، و(الحكاية - القيمة) باعتبارها واحدة من اصوليات ما بعد الحداثة، ثم يفرق بينهما موضحاً أن الأمر يمكن أن ينطبق على مصطلحات أخرى مثل الشعب والوطن والطائفية والمذهبية. ويستمر الغذامي في هويات ما بعد الحداثة ليناقش العرقية والهوية حيث يقول إن "عيب المثالية الحداثية هو تغليبها عنصراً واحداً على سائر العناصر وهو تغليب يقوم على الإلغاء، ويقسم الهوية إلى قسمين هما الهوية المشرعنة والهوية المقاومة"، ليخلص إلى أن الهويات منتوج ثقافي يحضر اليوم بقوة كإحدى سمات ما بعد الحداثة، وهي ردة فعل على اخفاق الحداثة، ثم يتناول في الفصل نفسه اشكالية المصطلح. روافد ثقافية تحت عنوان "الاسلام والقبيلة" يطرح الغذامي شيئا عن روافد الثقافة العربية وهما: الاسلام والقبيلة، ويستشهد بآيات ومقولات كثيرة للدلالة على خطابهما الرافد للثقافة العربية، وهذا ما نلاحظه تحت عنوان مركزية التقوى كذلك وفي الشعب بوصفه قبيلة كبيرة. ويفسر الغذامي كلمة الشعب ودلالتها ثم ينتقل إلى ما يسميه قانون الأفعل، وهو قانون عملي عقلاني، مأخوذ عن الخطاب العربي والاسلامي في المقدس وفي الموروث الأدبي. وتحت عنوان "المستعرب" يعالج الغذامي بعض ما جاء لدى ابن خلدون حول القبيلة، وأنواع العرب ومفاهيم الشعب، القبيلة، العائلة كمنظومات اساسية في تشكل المستعرب، وما يسميه التزاوج الثقافي. كما يناقش موضوعات النمذجة الثقافية، وبنية القبيلة، والنظام الذهني، ومساءلات الترحال، وما يسميه القصيدة المرة - النفس المرة. وهنا يخبرنا عن الشعر وكونه سجلا ثقافيا للحياة العربية، والنفس المرة التي يعبر عنها بالناقة الحزينة. ويورد الناقد تلك الصفات العربية والانساق التي تشربها العربي والتي تقيس وعيه الخاص حول الأشياء وتحولاتها وتقلباتها مما أدى الآن، وبعد زمن الحداثة، إلى العودة الى الأصوليات واكتشاف القبيلة ومزاياها. فهناك عودة للاصوليات الجذرية، وهناك الخوف وصناعة الأسطورة والمرجعيات النسقية وهي واحدة من اسباب عودة الاصوليات. ينظر الغذامي إلى الأصول كأحد المكونات الاساسية ويتساءل: هل تستطيع الثقافة ان تنسلخ من جلدها؟ وتفر من أصلها؟ ويذهب في إجابته إلى أن أميركا وأوروبا حاولتا أن تفعلا ذلك، مؤكداً أنه فوجئ بعدم تنازل بعض الاقطار عن شعارها الوطني أو عملتها أو شيء يسير من ثقافتها الخاصة لأن هذا، حسب تعبيره، مسح للذاكرة. يقول: "لا مفر من الذاكرة الثقافية حتى وان تخيلنا صورا بديلة؛ فالصورة تلحق الصورة، والأصل يلحق الأصل ويعود بصيغ وحيل ماكرة فعلاً وواقعاً". بقيت الإشارة إلى أن كتاب الغذامي يأتي بعد كتابته عدداً من المقالات في صحيفة الرياض تحت نفس العنوان معلناً فشل الحداثة والعودة الى الاصوليات والى هويات ما بعد الحداثة.