للمكان شأنه الكبير في العمل الروائي فلا حدود لطاقاته الوظيفية غير حدود الروايات ذاتها. وتشخيص المكان في العمل الروائي أبعد من أن يكون مجرد ضرب من الزخرفة المكملة، بل إن هذا التشخيص لمرتبط بدوره ارتباطا وثيقاً باشتغال الأثر الروائي. والمكان يؤثر في جميع العناصر المكونة لعالم المتخيل السردي، ويتأثر بها، حيث إن "مما لا شك فيه ان نوع المكان يؤثر في اخلاق وعادات الشخصيات التي تتحرك على ارضه، ومستوى المواقف التي تحدث في اطاره، واتجاه الصراع الذي يدور داخله". ومع بزوغ شمس الرواية الجديدة حدثت عدة تغيرات في تعامل الروائيين مع جميع عناصر البناء الروائي، ومن ذلك عنصر (المكان). فصارت تخرج عن الحرفية الى الفنية في رسم المكان، فرأيناه مكانا روائياً مختلفاً عن المكان الجغرافي القائم على ارضع الواقع. لقد ارتقت الروايات بعنصر (المكان)، ومنحته وظائف جديدة منها: ان وصف المكان صارت له وظيفة تفسيرية بحيث ان وصف المكان صارت له وظيفة تفسيرية بحيث انه يستعان به في تفسير العمل الروائي وفي تتبع دلالاته. انه سحر الكلمات الذي يمس المكان فيحيله الى مكان مختلف يحمل الكثير من الدلالات والرموز والجماليات! ان الاماكن مهما صغرت وهما كبرت، مهما اتسعت ومهما ضاقت، مهما قلت ومهما كثرت، تظل في الرواية الجيدة مجموعة من المفاتيح الكبيرة والصغيرة التي تساعد على فك جزء كبير من مغاليق النص الروائي. ان الروائي حين ينجح في بعث الحياة في عنصر المكان في روايته فإنه قد ينجح في تحقيق العالمية لعمله! يحقق هذه العالمية حين لا يكون مجرد مسجل لما تشاهده عيناه، او مجرد موثق لمايتخيله ذهنه، بل حين يضفي على ما تراه العينان وعلى ما يتخيله الذهن دلالات عميقة، حين يستطيع ان يجعل هذا المكان رمزا مكتنزا بالدلالات والرؤى، حين ينجح في توظيف لغة الوصف، وتوظيف المطل الذي يشرف من خلاله على الموصوف في ايصال صوته ورؤيته الى المتلقي. ولقد وجد الباحث ان من الاماكن المكتنزة بالجماليات والدلالات (السجن)! ومن اسباب ذلك ان السجن مكان مخالف للمألوف، ويتكثف الزمن في السجن، ويتضاعف تأثير المكان في الشخصيات والاحداث، حتى يغدو السجن مكاناً مكتنزا، ومكانا مؤثرا ابلغ تأثير، انه مكان يفرض نفسه بقوة على المتلقي كما انه قد فرض نفسه بقوة وصرامة على الشخصيات التي تعيش فيه، وعلى الزمن المسجون بين جنباته، وعلى الاحداث التي تدور داخل زنزاناته وحجراته. واذا كان المكان قد يصنف الى مكان مفتوح وآخر مغلق فإن (السجن) من اشد الاماكن انغلاقا، والمكان المغلق يبعث عندنا ايحاء بأنه يحتوي اسرارا أو ألغازاً, ولذا تكون الاحداث فيه، والحوارات، والشخصيات حمالة للدلالات، ويكون الكاتب الناجح، والقارئ الفطن اشد حساسية تجاه عناصر المعمار الروائي، وأكثر يقظة، وأبلغ عناية. يتجول هذا البحث في فضاء السجن، متتبعاً معالمه المكانية: أسواره، وأبوابه، ونوافذه، وزنازينه، كيف وصفت هذه المعالم، ما إشاراتها؟ ما دلالاتها؟ فالأسوار تفصل بين عالمين: العالم داخل السجن، والعالم خارجه. والأبواب مكان للتواصل، ولكن وظائف الباب في السجن تختلف عن وظائفه خارج السجن كما يعرض هذا البحث. واما النوافذ فانها تظل في السجن مكانا للتواصل مع العالم الخارجي على الرغم من محدودية مساحتها، وامتلائها بالقضبان! وأما الزنازين فهي المعلم الأبرز في هذا المكان السجن، وذلك لان السجين يقضي فيها الجزء الأكبر من مدة اقامته في السجن، وقد تفننت والروايات في تصوير الزنزانة، وحيطانها، وادق تفصيلاتها، وكيف لا يكون ذلك، والسجين يعيش بين حيطانها اأوقاتا مديدة، إنه يحيا زمنا ممتدا في مكان واحد ضيق، فلا عجب ان ينعم النظر في تفصيلات هذا المكان، ويمعن التفكير في جزيئاته ودلالاتها، بل ويلخط ذلك كله بنفسه وروحه، وهل له خيار غير ذلك! ويعرض البحث - كذلك - تفاعل الشخصيات مع هذا الفضاء المختلف (فضاء السجن عموماً) وأبرز آثاره تلك الشخصيات. ويتناول البحث - كذلك - فلسفة هذا المكان المخالف للمعهود: كيف يراه الكاتب، وكيف تراه الشخصيات من خلال منظوراتها المختلفة. وسيكون عمل الباحث في هذا البحث منصباً على عملين روائيين سعوديين، رآهما الباحث من أنضج الروايات السعودية في تصوير جماليات (السجن)! وهما: - ثلاثية تركي الحمد، أطياف الأزقة المهجورة: (العدامة)، (الشميسي)، (الكراديب). - رواية علي الدميني، (الغيمة). * أستاذ الأدب الحديث المساعد بجامعة الملك خالد بأبها من أوراق عمل ملتقى قراءة النص التاسع بالنادي الأدبي بجدة