القارة الإفريقية من جديد هي الهدف "الإسرائيلي" المفضل، تحاول التوسع فيها، وتثبيت مواقعها ونفوذها في مختلف دولها سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً وتنموياً . "إسرائيل" تقدم نفسها إلى هذه الدول كالملاك الذي يبشر بالخير والسلام والمحبة، لكنها في الواقع تريد تحقيق أهداف محددة هي تطويق العرب من الجنوب وضرب أمنهم القومي من خلال جذب الدول الإفريقية باتجاهها وتحويلهم إلى مواقع معادية للعرب، وبذلك تكون قد سيطرت على ساحتهم الخلفية .العرب من جهتهم يعلمون ولا يفعلون شيئاً، لأنهم تركوا القارة السمراء للعبث "الإسرائيلي" تسرح فيها وتمرح كما تشاء .مرت العلاقات بين الكيان الصهيوني والدول الإفريقية، بالمراحل التالية التي تصادفت مع محطات رئيسة في المسار العام للصراع العربي-الصهيوني ومع متغيرات إقليمية ودولية مهمة: * المرحلة الأولى 1948 1957: شهدت تصويت ليبيريا إلى جانب الكيان الصهيوني على قرار تقسيم فلسطين ،1947 وكانت ليبيريا ثالث دولة في العالم تعترف بالكيان الصهيوني عام 1948 . * المرحلة الثانية 1957 - 1973: شهد العقد الأول منها (1957- 1967) تبلور سياسة صهيونية واضحة المعالم إزاء الدول الإفريقية لجهة الاعتراف السياسي وإقامة العلاقات الدبلوماسية وعرض المساعدات المالية وتبادل الزيارات وعقد الاتفاقيات، وإرسال الخبرات الفنية واستقبال المتدربين الأفارقة، حيث أقام الكيان الصهيوني حتى عام 1967 نحو 32 بعثة دبلوماسية في القارة الإفريقية، واعترفت به العديد من الدول الإفريقية . فيما زار الكيان الصهيوني سنة 1962 عشرة رؤساء أفارقة، وفي سنة 1963 زار الكيان الصهيوني عدد كبير من رؤساء الوزارات والوزراء ورؤساء نيجيريا وتشاد وفولتا العليا وتوجو وليبيرياوساحل العاج والغابون ومالي وغيرها . وبالمقابل زارت سنة 1964 وزيرة خارجية الكيان الصهيوني آنذاك غولدا مائير كلاً من زامبيا وغينيا وساحل العاج . وفي مايو/أيار 1966 زار رئيس وزراء الكيان الصهيوني ليفي أشكول ست دول إفريقية هي: السنغالوساحل العاجوليبيرياوالكونغو وأوغندا وكينيا . وعقدت عشرات الاتفاقيات في شتى الميادين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية واتفاقيات صداقة وسياحة وتعاون فني، فضلاً عن إرسال 2500 خبير من الكيان الصهيوني في شتى المجالات خلال فترة ما بين 1958 و1966 إلى الدول الإفريقية واستقبال ما يقارب 9 آلاف متدرب إفريقي في الكيان الصهيوني . وعمد الكيان الصهيوني إلى تقديم قروض لعدد من الدول الإفريقية، فخلال السنوات 1959 - 1966 قدم قروضاً لكل من: غاناونيجيرياوليبيرياوساحل العاج وغينيا وكينيا وسيراليون وتنزانيا ومالي ومدغشقر بلغت قيمتها نحو 95 .57 مليون دولار . وبحلول عام ،1965 وفي المجال العسكري كان الكيان الصهيوني شمل نشاطه 16 دولة إفريقية، وتراوح هذا النشاط العسكري بين تدريب الجيوش الإفريقية سواء أكان ذلك في الكيان الصهيوني أم بإرسال الخبراء . كما أقام وأدار المدارس العسكرية في غانا وإثيوبيا وأوغندا وكينيا . وباع أسلحة للكثير من الدول الإفريقية، وبلغ نشاطه إلى حد إقامة قواعد عسكرية ومراكز استخبارات لخدمته كما حدث في إثيوبيا وتشاد . ومع نهاية عام ،1972 كان هناك 27 دولة إفريقية تقيم علاقات دبلوماسية على مستوى السفراء مع الكيان الصهيوني . في حين أن أربع دول إفريقية توجد فيها قنصليات للكيان الصهيوني، و11 دولة عقدت اتفاقيات صداقة مع الكيان الصهيوني، و15 دولة إفريقية لها اتفاقيات اقتصادية معه، و23 دولة إفريقية لها اتفاقيات فنية معه، و10 دول إفريقية عقدت اتفاقيات ثقافية مع الكيان الصهيوني، فضلاً عن 9 دول عقدت اتفاقيات جوية، و17 دولة لها علاقات تعاون عسكري، و7 دول لها علاقات استخبارية، إضافة إلى عدد من الدول التي حصلت على قروض من الكيان الصهيوني وأقامت معه مشروعات مشتركة . * المرحلة الثالثة 1973 - 1982: تميزت السنوات الأولى منها بزيادة التدهور إذ إنه قبل حرب 1973 كان الكيان الصهيوني يقيم علاقات دبلوماسية مع خمس وعشرين دولة إفريقية بيد أنه في الأول من يناير/كانون الثاني 1974 تقلص هذا العدد ليصل إلى أربع دول فقط هي: جنوب إفريقيا وليسوتو وسوازيلاند وموريشيوس . وتزايدت أيضاً عزلة الكيان الصهيوني تحت تأثير نجاح الحملة الدبلوماسية العربية في وصم الصهيونية بالعنصرية . ومساواة الكيان الصهيوني بالنظام العنصري في جنوب إفريقيا . لكن التراجع السياسي في علاقات الكيان الصهيوني مع الدول الإفريقية لم يعكس ذاته على العلاقات الاقتصادية والتجارية، بل على العكس حافظ الكيان الصهيوني على هذه العلاقات حتى مع الدول الإفريقية التي قطعت علاقاتها معه، إذ إنه خلال فترة ما بين 1973 و1978 تضاعفت قيمة التجارة بين الكيان الصهيوني والدول الإفريقية . وتمثل الانفراج في علاقات الكيان الصهيوني مع دولة جنوب إفريقيا في توقيع وزير خارجيته آنذاك شيمون بيريز مع نظيره الجنوب إفريقي ألفريد ناجو في 13-9-1995 اتفاق إطار للتعاون في مجالات مختلفة لتفعيل اتفاقات سابقة كان قد تم التوصل إليها مع النظام السابق في جنوب إفريقيا لكنها لم تدخل حيز التنفيذ . وتعمق هذا الانفراج في لقاء شيمون بيريز بوصفه رئيساً للمعارضة في الكنيست في 20/10/1996 في كيب تاون رئيس جنوب إفريقيا (الأسبق) نلسون مانديلا تم خلاله البحث في ما وصلت إليه عملية التسوية في المسار الفلسطيني الصهيوني . ولتوطيد نفوذه في شرق إفريقيا عمد الكيان الصهيوني إلى استثمار الأزمات بين الدول الإفريقية، وخير شاهد على هذا دخوله على خط الأزمة الإرتيرية الإثيوبية التي وصلت إلى حد الحرب، لاستقطاب إثيوبيا في أية حرب قد تنشأ حول مصادر مياه نهر النيل . ومقابل تدريبها طيارين إثيوبيين، وقع الكيان الصهيوني مع إرتيريا على اتفاق ينظم علاقات الطيران بينهما، ويتيح للطائرات "الإسرائيلية" المرور في المجال الجوي الإرتيري في طريقها إلى أهداف أخرى . وعلى صعيد دول غرب إفريقيا لم يهمل الكيان الصهيوني حتى أصغر الدول، إذ طور علاقاته مع بنين وعرض عليها بناء سفارة لها في القدس بتمويل منه، ووافقت بنين على هذه الصفقة . واعتبرت الأوساط الصهيونية هذه الموافقة إنجازاً سياسياً مع أن الأمر يتعلق بدولة صغيرة وفقيرة . فيما عمل الصهاينة في ليبيريا وسيراليون تجار سلاح وألماس ومرتزقة . وإزاء نيجيريا كانت العلاقات بين مد وجزر، حيث تقرر في عام 1996 في وزارتي الخارجية والحرب في الكيان الصهيوني منع استمرار النشاطات التي تقوم بها شركات صهيونية في نيجيريا . أما النيجر وعلى خلفية القمع الصهيوني للفلسطينيين وانتفاضتهم، الذي كانت عملية "السور الواقي" أحد نماذجه، فقد أعلنت حكومة النيجر في 21/4/2002 قطع علاقاتها الدبلوماسية بالكيان الصهيوني التي كانت قد استأنفتها عام 1996 . * المرحلة السادسة 2003 -2010: تعزز في هذه المرحلة بشكل ملحوظ دور ثالوث أدوات السياسة الصهيونية في إفريقيا من أنشطة الموساد وتجارة السلاح والماس والمساعدات الاقتصادية . وفي هذا السياق أشار التقرير الاستراتيجي الإفريقي إلى استخدام الكيان الصهيوني شركات الأمن والمسؤولين السابقين في الجيش الصهيوني، وأبرزها: شركة ليف دان وشركة الشبح الفضي، وشركة بول باريل للأسرار، وشركة آباك وهما شركتان فرنسيتان مملوكتان لعناصر يهودية . حيث يخشى الرؤساء الأفارقة من قواتهم المسلحة نفسها، ومن ثم يلجأ العديد منهم إلى تكوين ميليشيات قبلية لتأمين أنفسهم، حيث تتولى شركات المرتزقة "الإسرائيلية" تدريب وتسليح الكثير من هذه الميليشيات، وفي الكونغو على سبيل المثال، قامت تلك الشركات بتدريب وتسليح الحرس الخاص بالرئيس السابق دينيس ساسو نوجوسو، في حين تعاقد خلفه ليسوبا مع شركة "ليف دان" لتدريب وتسليح ميليشياته من الزولو الجنوب إفريقيين، أما غريمهم الثالث برنار كولايلاس فقد تعاقد مع شركة مملوكة ليهود لتدريب وتسليح قواته التي سماها النينجا . ويتبنى الكيان الصهيوني سياسة تهدف إلى إشعال وتصعيد الصراعات في إفريقيا، بهدف إسقاط أنظمة تسعى للتقارب مع الدول العربية، من ناحية، وإحكام السيطرة السياسية والاقتصادية على هذه الدول من ناحية أخرى، وليس خافياً في هذا المقام دور الكيان الصهيوني في تصفية الرئيس الكونغولى لوران كابيلا الذي بدأ حكمه بتحجيم الوجود الصهيوني في الكونغو، ومحاولة تعظيم العلاقات مع الدول العربية . وتميزت هذه المرحلة، بكثافة زيارات قادة الكيان الصهيوني للدول الإفريقية والاتفاقات التي تم عقدها، ويمكن الإشارة إلى الاتفاق الذي وقعه وزير الخارجية الأسبق سيلفان شالوم (يهودي تونسي) مع نظيره الإثيوبي سيوم مسافيم في 2-6-2004 حول تعزيز التعاون الثقافي والتربوي والعلمي، والقاضي بإقامة مشروعات علمية وتربوية وبرامج تعليمية مشتركة . وكانت الجولة الإفريقية لوزير خارجية الكيان الصهيوني افيغدور ليبرمان، الذي ضم وفده إلى جانب موظفي وزارة الخارجية، انضم إلى ليبرمان مندوب عن دائرة المساعدات الخارجية في وزارة الحرب، ومندوبون عن تجار الأسلحة وشركات صناعة الأسلحة، مثل "سولتام"، الصناعات العسكرية، الصناعات العسكرية الجوية، "سيلفر شادو"، مصانع صنع وصيانة السفن، "إلبيت" للصناعات الالكترونية الدقيقة وغيرها . ومندوبون من شركات بارزة في مجال البنية التحتية، بينها شركة الكهرباء وشركة "إلكو" . وهي الجولة التي شملت: إثيوبيا وكينيا وغانا . ونيجيريا وأوغندا . وتعتبر إثيوبيا دولة أساسية ومركزية من الناحية الإستراتيجية بالنسبة للكيان الصهيوني على ضوء استعداد إثيوبيا للسماح بوجود عسكري صهيوني في أراضيها . وتنبع أهمية إثيوبيا الإستراتيجية بالنسبة للكيان الصهيوني في كونها دولة مجاورة لدول عربية ولكونها، أيضاً، مطلة على مسارات إبحار السفن إلى ميناء إيلات، وإلى قناة السويس . وأضيف إلى ذلك في السنوات الأخيرة محاولة إيران بتوسيع نفوذها في المنطقة المجاورة لإثيوبيا . وتم خلال الزيارة توقيع اتفاق تعاون مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "اكواس"، التي تضمّ ساحل العاج، وبنين، ومالي، وبوركينا فاسو، والسنغال، وتوغو، وغينيا بيساو، وغينيا، والنيجر، ونيجيرياوليبيريا، وسيراليون، وغامبيا، وغانا، وجزر الرأس الأخضر، يركز على الأمن الغذائي والموارد المائية، ويهدف إلى عقد شراكات مع دول المجموعة . ويشير وجود علاقات مع أكثر من 42 دولة إفريقية إلى أن التغلغل "الإسرائيلي" في إفريقيا دخل مرحلة متقدمة من الهيمنة ما يشكل خطراً على الأمن القومي العربي . والمثال الواضح على ذلك يتمثل في دور الكيان الصهيوني في أزمات السودان الراهنة . ويبدو أن ثوابت العلاقات "الإسرائيلية"- الإفريقية تتمثل في العلاقة العكسية بين تراجع حدة المقاومة العربية والفلسطينية للمخططات الصهيونية والتقدم في العلاقات بين الكيان الصهيوني والدول الإفريقية . وبالتالي أن تحرر ودمقرطة المجتمعات العربية في مغرب ومشرق الوطن العربي يشكل تهديداً استراتيجياً للكيان الصهيوني الذي يشكل بؤرة للثورة المضادة وأداة لردع الديمقراطية الحقيقية.