بينما كان الاقتصاديون بالدول النامية ينادون بألا ترفع الدولة يدها عن الحياة الاقتصادية بحجة السوق الحر، مطالبين بوجود هامش يسمح لها بالتدخل لحماية الاقتصاد الوطني وقت الضرورة، كانت أمريكا تعتبر هذه المطالب من الزمن الماضي، ونجحت بمساعدة البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية في فرض هذه السياسة. ولكن لأن "ازدواجية المعايير" هي الأسلوب الذي تعتمده دوما في سياستها، سواء كانت اقتصادية أو سياسية، فها هي تسمح لنفسها بأن تنحي سياسة السوق الحر جانبا للتدخل لحماية مؤسساتها الاقتصادية بعد أن عصفت بها أزمة الرهن العقاري. ولم يكد العالم يفق من حالة الذهول التي انتابته بعد استحواذ الحكومة الأمريكية على شركتي "فاني ماي" و"فريدي ماك" لحمايتهما من الإفلاس، حتى فوجئ الجميع باتباع نفس السياسة مع بنك "ميريل لينش" والذي ستئول ملكيته ل"بنك أوف أمريكا"، في حين طلبت مجموعة "أمريكان إنترناشيونال جروب" للتأمين من البنك المركزي الأمريكي منحها قرض إنقاذ؛ لمواجهة الأزمة التي تمر بها، ووافق 10 من أكبر البنوك هناك على تكوين صندوق للطوارئ بقيمة 70 مليار دولار يكون من حق أي منها الحصول على ثلث هذه القيمة. مزيد من التدخل وتشير هذه التطورات التي تأتي بعد ثلاثة أيام من المحادثات بين الرؤساء التنفيذيين للبنوك والسلطات التنظيمية في مقر البنك المركزي الأمريكي إلى وجود قناعة بأن قدرا هائلا من الدعم والمساعدة أصبح مطلوبا في مواجهة أزمة الرهن العقاري، وهو ما قد يعني حدوث مزيد من التدخل الحكومي مستقبلا. يأتي ذلك في الوقت الذي يستعد فيه بنك "ليمان براذرز" -رابع أكبر البنوك الأمريكية- لإشهار إفلاسه بعد تعثر المحادثات التي عقدت لبيعه لبنك باركليز البريطاني. ويرى الاقتصادي بيتر كيني أن النظام المالي الأمريكي بدأ يكتشف بعد هذه التطورات أن الأرضية التي تقف عليها أساساته تتحرك كما لم يحدث أبدا من قبل، وقال في تصريح لرويترز الإثنين 15 سبتمبر: "إنه عالم مالي جديد على شفا عملية إعادة تنظيم شاملة". تأثيرات شاملة وكانت هذه التطورات قد ألقت بظلالها على أسواق المال، وانخفض الدولار الأمريكي إلى أدنى مستوى منذ شهرين أمام الين الياباني الإثنين 15 سبتمبر، مع تزايد المخاوف بشأن استقرار النظام المالي الأمريكي، وارتفع سعر الذهب لأكثر من 2%، وزاد الإقبال -أيضا- على الأسهم، مع اتجاه المستثمرين لتوجيه أموالهم إلى استثمارات آمنة. ومن ناحيته، طالب باراك أوباما المرشح الديمقراطي في انتخابات الرئاسة الأمريكية بضرورة تحديث النظام المالي. وقال أوباما في بيان أصدره تعليقا على هذه التطورات: "الوضع في مؤسساتنا المالية هو أحدث حلقة في سلسلة من الأزمات التي تولد غموضا هائلا بشأن مستقبل أسواقنا المالية". وأضاف: "هذا الاضطراب هو خطر كبير على اقتصادنا، وقدرته على خلق وظائف ذات أجور جيدة، ومساعدة الأمريكيين العاملين على سداد فواتيرهم، والادخار للمستقبل، وسداد مدفوعات الرهون العقارية". وكان البيان فرصة لانتقاد سياسات الرئيس بوش الاقتصادية، فختمه بقوله: "التحديات التي تواجه نظامنا المالي اليوم تمثل مزيدا من الأدلة على أن كثيرين في واشنطن لم يؤدوا واجبهم".