الشخصية مركّب فذ من الجسد والروح والنفس والعقل، ولها بعدٌ اجتماعي عظيم الأثر في وجودها. وإن كل نمو إيجابي في أي جانب من جوانبها ينعكس عليها جميعاً، كما أن أي خلل يصيب أي جانب منها يعود بالضرر عليها جميعاً. يستمد الاهتمام بالبعد العقلي نوعاً من التميز من خلال أن التفكير الجيد شرط لتنمية كل شيء في الحياة: التربية والاجتماع والاقتصاد والسياسة والعلاقات..ويعد أي تطوير لأي جانب من جوانب الشخصية بالغ الأهمية ؛ حيث إن الرؤية الإسلامية تؤسس مقولة: (الإنسان أولاً). أضف إلى هذا أن التقدم المادي والعضوي قد يكون محدداً بأسوار تجعل المضي فيه أمراً عسيراً أو مستحيلاً، على حين أن أمداء النمو أمام البعد العقلي والروحي فسيحة جداً. إن العقل البشري نعمة عظمى من الله جل وعلا وله قدرات هائلة، هي أكثر مما يظن. ويمكن القول: إنه أشبه بعملاق نائم! وقد دلّت الدراسات النفسية والتربوية، وأبحاث الكيمياء والفيزياء والرياضيات أن ما تم استخدامه من إمكانات العقل لا يزيد على 1% من إمكاناته الحقيقية. الحاسب الآلي (كراي) حاسوب عملاق يزن سبعة أطنان، فإذا عمل بطاقة 400 مليون معادلة في الثانية مدة مئة عام، فإنه لن ينجز سوى ما يمكن للدماغ البشري أن ينجزه في دقيقة واحدة ] فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ [ [المؤمنون: 14]. يمكن القول: إن ل (العقل) شكلاً ومضموناً ؛ فشكله تلك القدرات والإمكانات التي زوّد الله تعالى بها أدمغتنا، مثل القدرة على خزن المعلومات واسترجاعها، ومثل القدرة على التخيل والتحليل والتركيب... وهذه متفاوتة بين الأشخاص متساوية على نطاق الأمم. ومضمون العقل منه ما يعود إلى مجموعة المبادئ الفطرية العالمية التي لا تختلف بين شخص وآخر، مثل إدراك عدم إمكانية اجتماع الضدين، وإدراك أن الكل أكبر من الجزء، وإدراك استحالة القيام بعمل خارج دائرتي الزمان والمكان. ومنه ما يعود إلى شيء مكتسب مرتبط بالثقافة السائدة، وهذا في الحقيقة يتشكل من مجموعة المفاهيم المترابطة والراسخة التي يحاول الناس من خلالها استيعاب الواقع الموضوعي وتنظيمه وتكييفه مع حاجاتهم... وهذا النوع من المضمون مطلّ بالضرورة على مبادئ التفكير الفطرية ومرتبط بها. العقل من خلال شكله ومضمونه ينتج شيئاً نسميه: (العقلانية). وبما أن (الثقافة) تختلف في مبادئها وقيمها وجمالياتها ورمزياتها بين أمة وأخرى، فإن المتوقع من العقلانية أن تتسم بطابع النسبية، بسبب الدور البالغ للثقافة في تكوينها. ولذا فليس ثمة عقلانية صافية أو محايدة أو مطلقة. ولعلنا نستشف هذا من النسق القرآني ؛ فهو إذا جمع بين الحكمة والتي هي مركّب من الذكاء والمعرفة والإرادة والكتاب في موطن واحد، يقدّم الكتاب أولاً، وكأنه يرمي إلى ضرورة تأطير (الحكمة) بالكتاب (الوحي) حتى تكتسب نوعاً من المرجعية، وحتى تتخلص من النسبية التي تضفيها عليها الثقافة. إن بُنانا الفكرية ليست معصومة من رياح التغيير العاتية ؛ فهي باعتبارٍ مّا انعكاس لما يجدّ من نظريات وآراء علمية واجتهادية مبثوثة في جميع مجالات الحياة ؛ ولذا فإن علينا أن نمتلك أعلى درجة من اليقظة والحذر حتى نصون عقولنا من البرمجات الثقافية والبيئية التي تحول دون استيعاب الواقع على النحو الصحيح، ودون التطوير البعيد المدى الذي نحتاجه. شروط للتجديد: إن التجديد في أي جانب من جوانب الحياة، يتضمن دائماً نوعاً من التخلي عن بعض المألوفات، كما يرتب تكاليف جديدة، ويتطلب ضبطاً أكثر للذات، ولهذا كله كان شاقاً على النفس. إن أول شرط من شروط التجديد: هو معرفة (الثوابت) على نحو جيد، والتفريق بينها وبين (المتغيرات) وتتجلى الثوابت في الغاية الكبرى للوجود الإنساني، وفي المبادئ والقيم العليا التي نؤمن بها، إلى جانب الأحكام القطعية الواقعة خارج نطاق الاجتهاد. إن التجديد المستمر كبير التكلفة، ومفتاح معايشته هو أن يكون في داخل المرء (جوهر) يستعصي على التغيير، ويمثل الفلك الذي تدور فيه جميع المتغيرات، وتخدمه. والشرط الثاني: هو امتلاك ما يكفي من الخيال والوعي للإحساس بالنهاية التي نرنو إليها. والشرط الثالث للتجديد: أن يوقن المرء أن في إمكانه أن يغير عاداته الفكرية والنفسية والسلوكية، وذلك يتوقف على القدرة على مجاهدة الأهواء والأوهام والكسل الذهني، والإخلاد إلى المألوفات. إن التجديد للبعد العقلي يتم بالتخلص من طرق التفكير الخاطئة، وباكتشاف الإمكانات، والآفاق التي تزيد في كفاءة تصوراتنا، وتحسّن مستوى محاكمتنا العقلية ؛ ولعلي أسوق من ذلك ما يسمح به الوقت على النحو الآتي: يدّعي معظم الناس أنهم قادرون على عزل أفكارهم عن مشاعرهم، وأن بإمكانهم أن يحملوا مشاعر تعاطفية نحو أمر ما على الرغم من كونهم يحملون أفكاراً سيئة عنه. والحقيقة أن أفكارنا ومشاعرنا، تتناوب التأثير والتأثر في معظم الوقت، وهناك توافق بينها. والنجاح المتوالي يوجِدُ حالة نفسية تظلل جميع حياة الفرد، وتجعله يعتقد أنه ناجح فعلاً. ويحدث العكس عندما تتوالى أحداث الإخفاق على الإنسان. في كلتا الحالتين تبدو الصورة التي نكونها عن أنفسنا كأنها الصورة الوحيدة الصحيحة، ونتصرف بعد ذلك على هدي من معطياتها. والحقيقة أن الأمر ليس كذلك ؛ فحين يزور خمسة من الناس مكاناً لا يعرفونه من قبلُ، فالمألوف أن تكون لهم حياله وجهات نظر متعددة، وسيكون بعضها أكثر مطابقة للحقيقة من بعضها الآخر. كثير من الناجحين في وظائفهم أصيبوا بأمراض مزمنة كقرحة المعدة حرمتهم نعمة الاستمتاع بالحياة، وكثير منهم خسروا أنفسهم، بما أهملوه من شأن آخرتهم.... وبعض من أخفق في دراسته يملك إمكانية هائلة للنمو الحر والنجاح في ميدان تجاري أو وظيفي أو اجتماعي... ولذا فإن من الحيوي ألا نعتقد أن النجاح الذي حققناه في أي مجال هو الذروة التي لا ذروة بعدها ؛ فالمهم ليس الصعود إلى القمة، وإنما كم يمكن البقاء عليها، وألاّ يمكن أن نكون واهمين في تصورنا للقمة، وأن تكون الحقيقة غير ذلك؟ .. في المقابل حالات الانكسار والهزائم التي نمر بها لا تعني نهاية العالم، بمقدار ما تعني أن علينا أن نفكر بطريقة جديدة، وأن نبحث عن مجالات جديدة. ولذا كان من الضروري أن يسأل الواحد منا نفسه: كيف أستطيع أن أفكر في هذا الأمر بطريقة أخرى؟ وكيف يستطيع غيري أن ينظر إليه؟ وما وجهات النظر الأخرى حياله؟ .إن الإجابة عن هذه الأسئلة تشكل تمريناً عقلياً يحسن أن نجرّبه من وقت إلى آخر. إن الذي يحول بيننا وبين رؤية الخيارات العديدة المغايرة لما نعتقده ونفضله هو ما استقر في نفوسنا من الانحياز إلى مشاعرنا ومألوفاتنا وطرق تفكيرنا، وهذا الانحياز مصدر كبير من مصادر الحرمان من التجديد، والحرمان من مشاركة غيرنا في رؤية الأشياء على نحو أكثر رحابة.