حب الوطن والأمة كانا مبعثيّ التحدي والاستمرار، ردَّدنا الكثير مما حفظناه ومازلت أردده وأتوقف مليًّا أمام مدلولاته الواسعة العميقة، التي مازالت تحفر مسارها في طريق الحياة، هذه الحياة التي تحتاج لفارس نبيل ورجل واعٍ لا ينسى ما قاله وسمعه، بمعنى آخر ذاكرتُه ليست مثقوبة. ربما يسألني سائل: ما المقولة التي سوف تحدثنا عنها بعد كل هذا التمهيد؟ وإني لأردُّ عليه: تركت التخمين لكم، وقد يقول آخر: في الاتحاد قوة وفي التفرقة ضعف، أقول له: هذا أمر يحتاج إلى تفسير، وهو يشغل تفكيرنا ونقاسي غربته في حياتنا، وتدفع أمتنا ثمنه باهظًا، ولكن هناك من يهمس في أذني قائلا: بالأخلاق تبنى الشعوب وترقى الأمم، على قول الشاعر: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت * فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا. وإنّي أشدّ على يديه وأضحك من نشوة الإعجاب وأقول له: من قال غير ذلك فهو أحمق وعاقٌّ لقيمه ومُثُله، وربما تقف واحدةٌ كانت مستسلمة للنوم في صفها، أيقظها صوت الضمير العالمي المخبّأُ في رغيف خبز يأكله طفل هارب من زحمة الحياة في العراق والكونغو وأثيوبيا، أيقظها صوت أسنانه وعويل معدته فتقول له: اشرح هذا البيت يا فتى: الأم مدرسة إذا أعددتها * أعددت شعبًا طيّب الأعراق.ولكنه تهرب من سؤالها بسؤال آخر فقال لها: من قائل هذا البيت الذي أتعبني حملُه في ذهني: فلا نزلَتْ عليَّ ولا بأرضي * سحائبُ ليس تنتظم البلاد، فتضحك لدرجة أنّ عينيها دمعتا وهي تقول له: النتيجة إلى الآن تعادل، فيجيبها: هذا باعتقادك، بيننا جولة وربما جولات. بعد هذا هناك من يقول وقد عصب رأسه براحتيه: "الله يرحم أيام زمان، الله عون على هذه الأيام." نعم ألف رحمة على أيام زمان، تلك الأيام التي غرست في نفوسنا أنقى العبارات وأسمى المواقف النبيلة فأسأل ذاتي: أين مقولة: "العمل تكليف وليس تشريفًا"؟ وإني أبحث عن مدلولها كل يوم وأفتش عن أثر لها، فيلاحقني سؤال آخر: ماذا يبقى من الناس الذين نتسابق في تقديم الابتسامة العريضة لهم لو جردناهم من مكاتبهم وامتيازاتهم؟ وماذا يبقى من ذاك الذي ارتدى وظيفته ليستر جهله وحماقته؟ وراح يسيِّرها لصالح نفسه ومن يلوذون به ونسي جوهر العمل؟ وماذا يبقى من أمِّيٍّ، أخذ من الطاولة مكانًا لتنوب عن جهله وتجاوزاته، ماذا يتبقى منه لو عرّيناه في وضح النهار؟ لقد ظنَّ نفسه عبقريَّ زمانه، وأنه يفوق نجيب محفوظ في الإبداع والنجومية، ويضع المعرّي في عروة معطفه ولا يشعر به أحد! ولماذا لا يعيش هذا الإحساس المريض وهناك من ينفخ فيه ويلمِّعه؟ وهو لا يعرف سوى أسماء الصحف والدوريات التي يتبادل معها لعبة المصلحة والمنفعة المشتركة؟ كلما تذكّرت هذه العبارة "العمل شرف وتكليف"، هذه العبارة التي يحلو للكثيرين وضعها على جدران مكتبهم، كلما تذكرتها شعرت بالألم؛ لأنها أضحت شعارًا لأصحاب النفوس المريضة الذين يضايقهم نجاح الآخرين، فلا ينافسونهم ولا يباركون عملهم بل يحسدونهم، وهم على مكاتبهم الجرداء يكاد الكرسي أن يلفظهم لثقل طباعهم وغلاظة مخهم وجفاء عبقريتهم! كلما قرأْتها ارتسم أمامي هيكلُ ذاك الأميِّ في العلاقات الاجتماعية والأدبية الذي لا يحسن ردّ السلام والتحية، وما إن تدخل عليه حتى تراه يحمل سماعة الهاتف وراح في حديث بعيد عن الوظيفة، يسأل عن مادة له وعن مكافأة وعن.. وقد جلس وراء طاولة تراكمت عليها الأوراق والكتب والمجلات، تراه ولا تراه! تراه في وظيفته وقد استغل الطاولة ونصَّب من نفسه رجلَ شرطة، يفرض ما يريد ويرسِّخ ما يريد، ولا تراه إلا في مساحة ضيقة ملأى بالعفن، يحاول العوم فيها والانطلاق منها وليته يقدر العوم!