لا أعلم ما الذي قد يتبادر إلى الذهن أولاً عند سماع كلمة السلفية,فهذه الكلمة التي طال النزاع حولها وفيها كثيراً ليست من الكلمات التي تم تحديدها من قبل المشرع الحكيم سبحانه ولا يُفترض بها أن تكون من ضمن الكلمات التي تترتب عليها الأحكام فيما يتعلق بالصواب أو الخطأ,فليس من المعقول أن يكون الأمر صواباً لمجرد أنّه قد مرّ عليه زمنٌ طويل!! وليس هدف هذه المقالة أن تتناول الجانب التفصيلي لهذا المصطلح المعقد ولا أن توزان بين أدعيائه أيّهم أقرب,فالأمر حينما يتعلق بهذه الناحية لن يتجاوز قول الشاعر: وكلٌ يدّعي وصلاً لليلى وليلى لا تقرّ لهم بذاكا ولذلك فمن الأهم أن نتحدث هنا عن نظرة أصحاب هذا الفكر لطبيعة الدولة وخصائصها الواجب توفرها لتكون دولةً صالحةً وفق مقاييسهم,ومن الواضح أنّ الدولة في نظر أصحاب هذا الفكر هي دولة ذات صبغةٍ ثيوقراطية بحتة تقوم على الفكرة أكثر من العمل وعلى الغيبيات عوضاً عن الوقائع,مما يجعل الأمر يتحول من الطابع الديني الجامع إلى دوائر أكثر ضيقاً وأعقد شروطاً وأقل أتباعاً,ولا شك أن من يتتبع الحركة التاريخية للدول الثيوقراطية سيجد أنّها تتشارك في البدايات الطوباوية والحالمة وفي الأهداف الكبيرة التي تشبه الأحلام أكثر من شبهها للممكنات,ويمتد هذا التشابه ليشمل المراحل الوسطى في هذه الدول فيبدأ تشكل المدارس المختلفة في داخل المدرسة الجامعة وهذه التشكلات التي ستكوّن فيما بعد بنية الشك والتوجس في حقيقة المرتكزات التي بنيت عليها هذه الدول وستثير الكثير من الظنون حول جدوى الاعتماد على الميتافيزيقيا للتعامل مع مشاكل الواقع الملموس مما سيشكل ردة فعلٍ قاسية من هذه الدول تجاه الأفكار التي تحفز على السؤال ومراجعة ما ظل معدوداً من المسلمات لفترةٍ طويلة,ولا تكمن مشكلة هذه الدول الثيوقراطية في عدم مقدرتها على مواكبة تغيرات الحياة ومجاراة حركة التاريخ الطبيعية السائرة للأمام دوماً وحسب بل تكون هناك دائماً مشاكل أخرى تنشأ عن الذهنية التي تقوم عليها هذه الدول,فالثيوقراطيون مستعدون لتعطيل مصالح الناس ووضع العصا في عجلة التحديث والتنمية لخلافاتٍ فرعية بسيطة يصرون على تضخيمها وجعلها من الأصول التي نشأت عليها دولتهم وهذا الأمر مما لا يمكن أن يقبله السياسي الأرضي الذي يتعامل مع المطالب والحاجات وليس مع الاجتهادات الضيقة والفردية,كما لا يمكن أن يتم التعامل في الدول ذات المرجعية الدينية مع الناس كمواطنين لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات بل يتم منح الحقوق والمزايا وفقاً للقرب الفكري والظاهري من منهج الدولة وهذا بلاءٌ لا يمكن أن يبقى بعده لقيمة المواطنة وصيغ الولاء معنى, وعلى هذا الأساس الذي يعتمد المشابهة والمماثلة عوضاً عن الكفاءة والإخلاص يتم تولية أمور الناس ومصالحهم إلى المماثل الضعيف غير الكفؤ فيما يستبعد القوي الأمين لمجرد غياب المماثلة المتوهمة,ومن هنا نستطيع أن ندرك حجم المعضلة التي ستواجهها هذه الدول حتماً فالناس تريد من يستطيع القيام بواجباته بشكلٍ جيد بغض النظر عن وجهات نظره في الغيبيات وبغض النظر عن مقاييس الإيمان التي يتوهمها أصحاب هذا الفكر وقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلم دليلاً غير مسلم في هجرته إلى المدينة لكفاءته ومعرفته بالطرق وهذا يثبت قطعاً أنّ الشرط الوحيد الواجب توافره في من يوكل إليه أمر الناس هو الكفاءة والمقدرة على القيام بالعمل فقط.ومن كان متجرداً فسيكتشف أنّ جميع الأديان السماوية جاءت بالدولة المدنية ولم تتدخل في تفاصيلها وأنّ كل ما فرضته هذه التشريعات السماوية متعلقٌ بالخطوط العريضة للحياة البشرية السويّة كالعدل والمساواة وغيرها,ولكن بعض أصحاب دعاوى الغيبيات في بعض الدول الدينية الثيوقراطية لا يهتمون بهذه الضروريات الكبرى بل يتفرغون لجبر الناس على التفاصيل الصغيرة التي تعطيهم مزيداً من السلطة ومزيداً من المكتسبات في الأموال والمتع!! مما جعل الناس في بعض هذه الدول تضيق بهذه الدعاوى الغيبية الباطلة,فليس معقولاً ولا مقبولاً أن يسكت هؤلاء عن غياب العدالة والمساواة وعن تفشي الفساد والأثرة والظلم ثم يتفرغون للتضييق على أفراد الناس في خياراتهم الشخصية البحتة في المأكل والمشرب والسلوك,بل ربما تجاوزوا ذلك وحاولوا شرعنة الظلم ومأسسة الباطل ولا يمكن تخيل صدق دعاوى التزهيد في الدنيا والحث على الصبر وطلب الآخرة ممن يملك عشرات القصور والأموال الطائلة فهذا مما لم تعد تنفع معه دعاوى المتابعة للسابقين ولا موشحات اللحوم المسمومة,وقد نجحت الدول التي وقفت على الحياد ونأت بنفسها عن الخلافات في الغيبيات فليس من مهمة الدول هداية الناس بل تتلخص واجباتها في حفظ حقوق الجميع وإلزام الجميع بنفس الواجبات مع الحرص على العدالة والرقابة فيما يتعلق بالرزق وضرورات الحياة وهذه هي الدولة التي حرصت الأديان السماوية عليها ورغبت فيها,أمّا قضايا الدروشة وتلهية الناس بتفاصيل الوهم والوسوسه فلم يعد هذا زمنها وقد أثبت التاريخ شكلاً ناجحاً للدولة لا يتعلق بما كان عليه السلف ولا الخلف وإنما بما ينبغي أن يكون عليه الواقع من الكرامة والحرية والمساواة والعيش الكريم وهذا هو مايريده الناس أمّا حسناتهم وسيئاتهم فأمرها إلى الله وليس إلى الدول ومؤسساتها. http://www.facebook.com/knfalamri [email protected]