** اسمحوا لي بداية ان اعيدكم الى المقال الذي كتبه الدكتور الشيخ "عائض القرني" في "الشرق الاوسط" يوم الثلاثاء 11 مايو 2010.. وعنوانه "أمريكا تنصر.. امرأة سعودية".. وملخصه ان سيدة من اخواتنا السعوديات ذاقت الهوان على يد زوجها المبتعث الى امريكا، عندما كانت معه هي وابنها وابنتها.. وعندما كان يشتمها ويضربها، الى ان فاض صبرها فاستنجدت بأقاربها هنا في السعودية، لكنهم لم يحركوا ساكنا "كالمستجير من الرمضاء بالنار" الى ان استنجدت اخيرا بالشرطة الفيدرالية الامريكية هناك، والتي كانت "في الموعد" وتعاملت مع مأساتها كأفضل مايكون التعامل، الى درجة انها اسكنت المرأة واطفالها في فندق بعيداً عن عذاب زوجها الذي اودع السجن، ثم صرفت لها راتبا، واجرة محام يترافع لها عن قضيتها"!!. ** هذه القصة التي نقلها الشيخ القرني عن ثقة من الثقات والتي دعت الشيخ القرني لأن يتغزل في عدالة أمريكا في الداخل هناك، وفي ذات الوقت يوضح بطشها في الخارج عندما قال ان لها ضحايا خارج وطنها لكنهم داخل الوطن الامريكي يتعاملون مع رعاياهم ومن هم على اراضيهم من الاجانب تعاملات قد لا تبتعد عن قصة زوجة المبتعث السعودي التي سردها الشيخ القرني.. ولعلي اقول هنا ان قصة كهذه تجعلنا في حيرة من "العم سام" الذي ينشب مخالبه المتوحشة في ظهر الكثير من شعوب ودول العالم، بينما نراه ودودا، لطيفا، وغاية في المثالية مع رعاياه وممن يعيش على ارضه في الغالب.. في صورة محيرة من التناقض بين وجه حسن في الداخل، وآخر شرس في الخارج!! ** هذه القصة التي تبدو مبهرة للوهلة الأولى هي ليست بعيدة عن تراثنا الإسلامي، ولا عن شيمنا العربية الاصيلة، التي سادت ثم بادت للأسف، مما درسناه ووصلت الينا حكاياته بالتواتر الصحيح عبر الرواة طيلة التاريخ العربي القديم والجميل معاً، الى ان ظهر بين ظهرانينا في هذا العصر، من تنكر لتراثه العظيم، ولقيمه وخصاله العريقة، فاصبح نشازا، واضحوكة للدنيا، وكأننا لا نعرف من هذه المآثر غير ما هو محفوظ في الكتب والقراطيس البالية، بينما واقعنا الحالي وأيامنا وحياتنا الحاضرة شيء نقيض لذلك تماما، وكأننا لم نكن في الأصل أهل "هذه البضاعة" وصناعها ومنتجوها، بل ومصدوروها الى كل الدنيا في عصر مضى. ** أمريكا التي يكرهها الكثيرون في عدة اصقاع من الدنيا، هذه هي صورتها في الداخل الامريكي، واكثر من ذلك عدد من الروايات الاخرى التي نسمعها من اخواننا الذين يعودون من هنا، فينقلون لنا فصولا من جوانب شتى للحياة الامريكية اليومية، التي تبدأ بالنظام واحترام القانون، والتساوي في الحقوق والواجبات، ورفع المظالم، وتنتهي بتسنم ذروة المجد التقني والصناعي والعلمي والطبي.. وهي لم تصل الى ما وصلت إليه إلاّ لان لواء العدالة مرفوع هناك في الداخل الامريكي، حتى انني اكاد اراهن انه لا مجال عند اولئك القوم للتدليس وللظلم وللكذب والخداع والفساد الاداري والمراوغة.. الخ. ** لكنه يبقى لي في الختام ان اتحدث في محورين.. الأول ان على امريكا الاّ تكون "بوجهين" الوجه الأول عدالة واحترام وحضارة متنوعة في الداخل الامريكي، والوجه الثاني ظلم واستكبار وتدخل في شؤون دول وشعوب العالم في الخارج الامريكي.. على امريكا كقائد للعالم الحر، وكقطب اوحد ان تلغي وجهها الآخر، الذي قادها الى الكراهية، وان تجعل العالم من حولها ينعم بوجهها الاول الجميل، ليس صدقة من امريكا على العالم، بل واجب من واجباتها كدولة عظمى، عليها مسؤولية ادبية لا تعذر عن القيام بها، خصوصا وهي التي اصمت آذاننا صباح مساء باغاني الحرية واناشيد الديمقراطية وموسيقى العدالة. ** اما المحور الثاني فهو اننا نحن العرب والمسلمين تحديدا، فإننا عندما "غسلنا ايدينا" من الكثير من قيمنا وموروثنا وثقافتنا التي سدنا بها العالم ذات يوم، وكنا زعماء الارض قاطبة، فإنه لا ينظر منا بعد كل هذه التنازلات الا ان نرى مثل هذه الصور التي يختلط فيها الكوميدي مع التراجيدي كقصة صاحبنا هذا المبتعث الى امريكا، والذي نسي دراسته وتفرغ فيما يبدو لعذاب زوجته امام عيني طفليها.