عدت إلى مدريد من سفر مفاجئ لظرف قاهر، ووجدت رشا قلقة لهذا الغياب من غير سابق إشعار، وأخذت كعادتها تمطرني أسئلة عن الحال والأحوال في الوطن، وهل صحيح أن درجات الحرارة قد تجاوزت الخمسة والأربعين درجة مئوية، وهل أن السياحة الداخلية من الداخل إلى الشواطئ نشطة وتجذب الكثيرين ممن فضلوا الابتعاد عن الدول التي نشط فيها فيروس انفلونزا الخنازير ومن بينها أسبانيا، ولكن حتى الأماكن المقدسة عندكم تجذب مئات الألوف من مواطني بلدان ظهرت فيها حالات الإصابة بهذا الفيروس اللعين، ولكن.. وهي تستمر في الحديث ولا تنتظر الإجابة على تساؤلاتها تقول أنها من الأغلبية التي ترى أن هذا الفيروس لا يختلف كثيرا عن فيروس الانفلونزا العادية الذي يحصد أضعافا مضاعفة لما حصده فيروس انفلونزا الخنازير، وأن في الأمر شيء مريب، تقول لي بصوت يشوبه الاستنكار أنها تكاد تصدق ما يردده البعض من أن الشركات الاحتكارية الكبرى لإنتاج الأدوية واللقاح وراء هذا التصعيد، وأنها تقدر شعور المؤمنين الذين يرغبون التمتع بعمرة خلال شهر رمضان المبارك عندما تتعالى أصوات المطالبين بوقف العمرة والحج إلى أن ينجلي الموقف، وتجد في ذلك المطلب تسترا وراء رغبة أخرى عند من بيدهم الأمر وهي الحد من خروج العملة الصعبة في زمن الأزمة المالية الراهنة، فبلد يقصد من أهله ما بين معتمر وحاج حوالي مائة ألف شخص سنويا، والحد الأدنى لإنفاق كل منهم هو بحدود خمسة آلاف يورو، يعني أن ذلك البلد سيخسر من رصيده بالعملات الأجنبية ما مقداره خمسمائة مليون يورو عند أداء ذلك العدد من مواطنيه لمناسك العمرة والحج ، وتساءلت هل المقصود بمن استطاع إليه سبيلا استطاعة الفرد أم استطاعة خزينة الدولة؟ وقفزت من الحديث عن تداعيات أنفلونزا الخنازير على موسم العمرة والحج لتسأل عن السبب القاهر الذي دفعني للسفر المفاجئ فأجبتها عنه، وقدمت لي التعازي بفقد أقرب الأهل والمحبين لي، ورددت عبارة جعلها الله آخر الأحزان، فأجبتها بأنه لا نهاية للأحزان وخاصة عندما يتعلق الأمر بفقد من نحب ، فهذه سنة الحياة، ولكل أجل كتاب، غير أن الذي يؤلمني هو فقدي لقريب أو صديق أو معرفة كل أسبوع تقريبا، ففي هذا الشهر فقدت المربي الكبير الشيخ أحمد بشناق وهو بمكانة الوالد لي وصاحب الفضل على شباب مدينتي المنورة، فعلى يديه وبحرصه وتوجيهه تخرج من ثانوية طيبة العديد من الوزراء والسفراء وكبار الشخصيات العسكرية والإدارية التي ساهمت في بناء دولتنا الفتية. هذه الثانوية الرائدة التي رعاها الفقيد منذ يومها الأول وهو الثاني عشر من شهر ذي القعدة من عام 1362 (5 9 1949). وبعد وفاته بيومين فقدت من غادرت لأجله من غير إشعار وهو القريب وبمنزلة الأخ الأكبر لي الأستاذ عبد الوهاب شريف، وفي الأمس القريب فقدت الأخ والزميل والصديق والأديب والشاعر السفير عمر كردي الذي عاد إلى مدينتنا المنورة ليوارى جثمانه الثرى في البقيع بعد رحلة طويلة مع الشعر والعمل الدبلوماسي. وأخي عمر سليل فرع من آل كردي مرتبط بالأدب فقد سبق لجده الشيخ عمر كردي الكوراني أن تبوأ منصب قاضي المدينةالمنورة والمفتي الخاص فيها في مطلع القرن الماضي وكان مجيدا للشعر ومتذوقا له. بان التأثر على وجه صغيرتي رشا، ودعت لمن رحل عن دنيانا بالرحمة والغفران، وأرجأت الحديث عن قصص وحكايات دار المسنين للقاء قادم وتمنت لي ولقراء جريدتي البلاد رمضانا مباركا.