ظني أن معظم ما يعاني منه الناس في زماننا من التهابات واحتقانات، يرجع إلى ضيق القدر وقلة الصبر، وهما مختلفان وإن صبا في مصب واحد يؤدي إلى ضيق النظر وجمود الفكر وتصلب الرأي! سعة الصدر موهبة لأنها استعداد لدى بعض البشر يتفهم أن حياة الفرد مشاركة مع آخرين، تتشوه وتفقد قوامها وطعمها وقيمتها إذا أخرج الآخرين من حسابه، أما الصبر فهو سلوك يتوقف على العزيمة والمجاهدة والترويض والمران والاعتياد على قدرة التحمل والاحتمال. وسعة الصدر موهبة في نسيج الشخص تحول بينه وبين أن يقطع كلية الاتصال والتواصل بينه وبين الآخرين، وتفطره على ضرورة أن يبقى قادرا على الاحتفاظ بالخيوط الرئيسية التي تربطه بهم حتى مع الخلاف أو نشوب الخصومة.. لذلك فإن سعة الصدر ليست محض ذكاء أو سعة علم، فهي كثيرا ما تعوز الألمعي اللماح، وقد لا يتسع لها علم العالم الفذ! وكثير من خلافات البشر، أفرادا وجماعات، وانقساماتهم وعداواتهم ومشكلاتهم، ترجع في الأصل إلى ضيق الصدور.. ضيق كل صدر بغيره أو برأيه أو بتصرفه، وقلة ما يبذله عادة لمحاولة فهمه، وإدراك وجهة نظره، أو التعرف الجاد المنصف على دوافعه ومقاصده.. يمازج ذلك التعجل المبني على الخفة وقلة العناية والتمسك بالفكرة الأولى والانحياز للرأي الأول، والنفور والإعراض عما عداه، وعن الغير الذي قد يقابل ضيق الصدر بضيق مثله أو أشد، ويواجه الإعراض بأعراض، والنفور بنفور، ويرد على قلة العناية والتصلب للرأي بمثله، فتنعقد الأمور وتشجر الخصومات وتتبادل وتربو العداوات.. وقد تبقى هذه العداوات دهورا طويلة، يتوارثها الأبناء والأحفاد، وتتوارثها الجماعات كما هو غالب بين الديانات والملل والمذاهب والعقائد السياسية والعرقية التي توارثتها الأجيال المتعاقبة، حتى صار الانحياز المتعصب لكل منها جزءا لا يتجزأ من الديانة أو الملة أو المذهب أو العقيدة ذاتها. مثل هذه الانحيازات والتعصبات التي تلتصق بتراكمات الزمن وتصلبات العداوة، ترسب وتختلط بالعواطف العميقة الجذور التي يزكيها ويلهبها المتعصبون والمتصلبون، ويحرصون على ترسيخها وتنميتها بكل وسيلة، حتى تصير بضاعة للدعاة والزعماء والرؤساء والأقطاب وتهرب مع شيوعها وترسخها سعة الفهم وسعة الأفق، وتربو جبال من الخصومات الهائلة المدوية التي تغرق الأجيال فيتعلق لاحقها بسابقها دون تردد أو تأمل أو حساب! سعة الصدر وسعة الفهم، كلاهما مبتلى في كل عصر وقطر بتشدق وتدفق المتشدقين أصحاب العبارات الصارخة والتشنجات المتصلبة والخطب الملتهبة.. تتناقلها الروايات والتقاليد والموروثات والمخطوطات والرقائق والوثائق، وتتسلل إلى المصنفات والمؤلفات والآراء والفتاوى والتعليقات والردود وتراكماتها.. هذه التراكمات التي تتجذر بفعل الزمن وضيق الأفق والتصلب والتعصب الذي أعوزه سعة الصدور! سعة الصدر وسعة الفهم وسعة الأفق موهبة من الواهب عز وجل لمن يشاء ومتى شاء.. هذه الهبة الربانية أوسع من قدرة الضيقين المحصورين المتصلبين على منعها أو حجبها، كشأن رؤية النور ورؤية الصواب ورؤية الجمال والكمال، لا سبيل لأحد لمواراتها أو طمسها أو حجبها! أما الصبر، فهو سلوك يتوقف على الترويض والمران والاعتياد، لأنه القدرة على احتمال الآلام، والمشاق والمكاره المادية والمعنوية، مع الشعور بأن احتمالها برغم ما فيها هو اللائق بالآدمي وبكرامته في عين نفسه وعند أمثاله! ولا تخلو حياة الآدمي منفردا أو مجتمعا من تلك المكاره والمشاق، متوقعة كانت أو مفاجئة، ويلزمها لتوازن الآدمي وجود الثبات أو التماسك العقلي والنفسي الذي يسمح بالروية والتبصر والحساب للمقاومة الجادة المجدية، أو للتحامل والصبر مع محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. فالصبر ضرورة من ضرورات الحياة، من الواجب المجاهدة من أجل اكتسابه وتنميته في النفس وتعليمه للنشء، والتفريط في هذه القدرة لا يمكن تعويضه لا بالمال ولا بالجاه ولا بالسلطة. فلم توجد ريادة ولا قيادة ولا سيادة طويلة الأمد إلا بها.. ولم تبق بيوت ولا عشائر ولا جماعات وشعوب وحضارات وعلوم وفنون وصناعات إلا على أساس الصبر. فالصبر أول وآخر ما ننميه ونحرص على تنميته ما بقينا على هذه الأرض. ونفاد الصبر وانتهاؤه أو الزراية به آية حمق وطيش لا يقبل عليها ولا يهش لها إلا أرعن طائش أحمق مخرب! وليس كل صابر في عمله أو في أداء مهمته واسع الصدر بالضرورة بيد أن كل واسع صدر لابد أن يكون صابرا بالضرورة كلما اقتضاه الأمر.. هو بسعة صدره صبور دائما مع الآخرين. وليس في وسع أحد اشتراط سعة الصدر في اختيار الأشخاص، ولكن قد يشترط توافر الصبر والاشتهار به في الاختيار لمهام أو أعمال أو مواقف تقتضي الصبر وقد لا تستغني عنه ولا عن فائدته في جني القدرة على أداء المهمة أو اتخاذ الموقف! فالحاكم والقائد والمفاوض، والقاضي والمحقق والباحث، والمخترع والمصمم والمستكشف.. لا غناء لأي منهم عن الصبر.. فهو قوام وأساس القدرة على الإضطلاع بمهامهم وأعمالهم.. كذلك الأم أو القائمة بدورها والمرضعة والممرضة وراعي المعاقين والأطفال ومن في حكمهم، ومربو الحيوان ومدربه، والمشتغل بعمليتي التهجين والشتل، والمخرج وقائد الفرقة الموسيقية، وأصحاب الصناعات والمتاجر.. كل من أولئك يفقد قدرته بل قيمته لو فقد صبره اللازم للوفاء بما وكل إليه القيام به. والصبر خاصية غير حاضرة للإنسان في كل الأحوال، فقد يبلغ بها الغاية في مجال أو موقف، وقد تعوزه حتى يفتقدها في مجال أو موقف آخر. ربما نشهد شيئا من ذلك في القاضي مثلا أو في رئيس. فقد يبلغ القاضي كمال الغاية من الصبر وسعة الصدر على منصة القضاء، على حين يعوزه الصبر فيبدو ضيق الصدر نافد الصبر عاجل الغضب مع أهل بيته أو تابعيه.. ذلك أن الصبر مجاهدة عمادها المران والاعتياد، وربما اقترن ذلك أو تجدد بالموضع أو الموضوع الذي ينصب عليه صبر الصابر ومسيرته واتجاهاته.. ولكن احيانا ما يستهلك الصابر طاقة صبره التي يبذلها بإفاضة وسخاء في موقف، فيظهر أثر ما استهلكه في موضع أو موقف آخر يتقلص أو ينفد فيه صبره.. مثل هذا الخلل يظهر في توزيع الشخص لطاقته على مسلكه العام، ولكنه قد يستطيع تجنب ذلك أو مفاداته إذا كان الصبر خصلة أصيلة فيه، صادرة عن موهبة سعة الصدر الفطرية.. هذه الموهبة التي منحها الله تعالى محبة لبعض خلقه.. تحقق لهم رصيدا من الصبر لا ينفد، يكفي ما يحتاجه في عمله ومواقفه ويفيض على أحبابه، وأهل بيته بما يجعل لهم نصيبا موفورا من هذه السعة التي أفاء بها عليه الخالق عز وجل. لذلك لم يكن غريبا أن تكون كلمة الصبر أكثر الكلمات استخداما في حياة الناس ضمن المفردات المعبرة عن السجايا والشمائل المطلوبة، ومحل عناية في منظومة القيم والأخلاق التي عنيت بتبشير الصابرين وامتداح سجية الصبر، وتسللت إلى الأمثال والأغاني. وجعلها القرآن المجيد من عزم الأمور فقال: وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور( آل عمران186).. وبشر الصابرين، وجعل لهم عقبى الدار، بينما لم تنعم سعة الصدر بمثل هذه البشارات والوصايا، لأنها في الفطرة ونعمة خاصة من نعم الخالق عز وجل، لا تحتاج إلى حضن أو تحريض لأنها أصيلة يصدر عنها صاحبها بالطبيعة المتأصلة في نسيجه، كحب الآباء والأمهات وعطفهم وحدبهم على أولادهم.. هذه العاطفة الفطرية المتأصلة التي أغنت القران الحكيم عن توصية الآباء والأمهات بما أوصت به الأبناء أن يبذلوا للوالدين إحسانا.. بسعة الصدر يتنافس المتنافسون في نيل سجية الصبر التي هي من عزم الأمور، هي مناط الخير لأصحابها والبشارة لهم بمحبة الله وعقبى الدار بما صبروا.. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار( الرعد24). الأهرام