من سخريات ايام العولمة ولياليها السوداء ان توجه اساطيل القوى الكبرى لملاحقة قوارب بدائية يعتلي ظهورها صيادو اسماك صوماليون تحولوا الى القرصنة بعد ان انهارت دولتهم ومزقتها حروب القبائل والفرق الدينية. ومن عجائب هذا الزمان البائس ان ينجح هؤلاء القراصنة بوسائلهم البدائية في اختطاف بواخر عملاقة تحت انظار الاقمار الصناعية واسماعها، عشرات السفن والناقلات تم اختطافها في وضح النهار في مياه القرن الافريقي ليس بعيدا عن باب المندب ، حيث تمتد اهم خطوط الملاحة في العالم. ورغم رفع حالة التأهب وارسال العديد من الدول صفوة اساطيلها الى المحيط الهندي وبحر العرب وخليج عدن فان القراصنة نجحوا في توجيه الصفعة تلو الاخرى واختطفوا سفنا تحمل اعلاما لدول مختلفة افتدي بعضها بملايين الدولارات. ما يحدث في ارض الصومال وبحرها هو فوضى خلاقة فاجأت حتى الذين ابتدعوا هذا المصطلح وحاولوا استخدامه لتحقيق مصالحهم الاستراتيجية. انها الاهانة الكبرى لنظام دولي عفن يزحف على بطنه اليوم في محاولة للخروج من ازماته المتلاحقة. اما القرصنة فانها ليست ظاهرة جديدة وانما تعود بجذورها الى العهود الغابرة. ومن الطريف ان الجذر اللاتيني لكلمة قرصنة (بايرسي) يعني ايضا ، من ضمن جملة اشياء ، ان تجد الحظ في عباب البحر. وقد عرف الانسان القرصنة البحرية في كل الحضارات القديمة منها والحديثة. وفي كلاسيكيات الادب الغربي تم اضفاء صفات رومانسية على قراصنة الكاريبي في القرون الاربعة الماضية وبعد اكتشاف العالم الجديد. وعملت صناعة الافلام في هوليوود على اسطرة نماذج من قراصنة القرن الثامن عشر من اشهرهم هنري مورغان الملقب بصاحب اللحية السوداء. وقد مارس العرب القرصنة ، اسوة بغيرهم ، في عهود مختلفة ، وفي نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن الماضي عانت الاساطيل الامبريالية البريطانية من هجمات قراصنة رأس الخيمة الذين هددوا مصالحها في الخليج العربي آنذاك. وفي النصف الثاني من القرن العشرين بدا وكأن ظاهرة القرصنة قد انحسرت أو انتهت باستثناء حوادث نادرة في بحر الصين الجنوبي. لكن قراصنة الصومال الجدد اثبتوا ان انهيار النظام السياسي في القرن الافريقي ، شأنه شأن بروز ما يسمى بالدول الفاشلة في مناطق غيره ، كفيل باطلاق اشكال من الممارسات البدائية التي باتت تؤرق نوم اصحاب المصالح في الدول المتقدمة. حتى لو تجمعت اساطيل العالم كلها في بحر العرب فان الفوضى التي ادار العالم ظهره لها في الصومال وغيره ستستمر في انتاج ظواهر تربك النظام العالمي وتحرجه كما يحدث اليوم. لا يجب النظر الى القراصنة كمجرمين وخارجين عن القانون فقط وانما كضحايا ايضا في لعبة كبيرة قطعت اوصال بلدهم وحولته الى ركام. ان صفعات القراصنة المتتابعة للنظام العالمي ورموزه من اساطيل وطائرات واقمار صناعية تحمل اكثر من مغزى وتذكرنا بان لا قوة على الارض تستطيع ان تمسك بزمام التاريخ الانساني طوال الوقت. ان المواجهة الحالية في اعالي البحار هي بين قمة التقدم ونقيضه ، بين النظام والفوضى ، العولمة والمتمردين عليها لاسبابهم الخاصة. هم ليسوا ابطالا لكن الغرب الذي مجد في الماضي قطاع الطرق وقراصنة الكاريبي والخارجين على القانون ووجد فيهم رومانسية تذكر بالهمجية الهاجعة داخل كل واحد منا يجد نفسه امام معضلة كبيرة ليس من حيث التفاصيل وانما من حيث المبدأ. لكل نقيضه واليوم يشكل قراصنة الصومال نموذجا جديدا لهمجية رومانسية تقلق الغرب كثيرا. الدستور الأردنية