قال محدثي: أعمل وصديقي في مؤسسة واحدة، لكن في قسمين مختلفين فيها. كلانا محب للكمال، ولا يعجبنا العجب. يحلو لنا عندما نلتقي أن نمضي الوقت في نقد الآخرين، ولاسيما مديري المؤسسة. نَصِفُهم بكل الأوصاف الممكنة: الاستبداد بالرأي، عدم سماع النصح، آراؤهم سخيفة..ولم تتح لي ولا له الفرصة لأن نستلم مناصب إدارية، ولذا لم نجرب أبداً ما يعانيه أي مدير من مشكلات سواء من مرؤوسيه أو مديريه. ولم نكن ندري أن نهاية الأسبوع التي هي عطلة لنا، هي في الحقيقة أيام عمل لهم. يعقدون فيها الاجتماعات ويقضون الأوقات في التخطيط، ونحن مع أهلينا نمرح ونلعب. لكن كيف اكتشفت هذا؟ في السنوات العشر الأخيرة بدأت أقرأ الكتب الحديثة في الإدارة وطرق التعامل مع الناس وعادات الناس الناجحين والأساليب المؤدية للنجاح... الخ. وقد استفدت منها كثيراً. وحاولت أن ألفت نظر صاحبي لقراءة مثل هذه الكتب، لكن دون جدوى. لاسيما عندما رأى أنني بدأت أغيِّر طريقتي في النقد، فلم يعد نقدي لغرض النقد، وإنما صار نقداً بنَّاءً. ومع دخول البريد الإلكتروني صار الوصول إلى المديرين جميعاً أسهل، في حين كانت المراسلة سابقاً عن طريق التسلسل، وكم من مدير لا يرفع الرسائل التي لا تعجبه إلى من هو أعلى منه. نعم بقيت مع مديري المباشر أتعامل وجهاً لوجه، فأعطيه رسائلي الموجهة له يداً بيد، أما المديرون الذين فوقه فصرت أرسل إليهم عبر البريد الإلكتروني. أرسل رسائلي ناصحاً أو منبهاً إلى أمر مهم، ولكني لا أتابعها أين ذهبت، فحسبي أني قدمت النصح الواجب في الشرع. فإذا لم يأخذ بها المسؤول فهذا شأنه. لطالما ظننت أن رسائلي تذهب هباء منثوراً. لكني دُهشت مرة عندما رأيت إحدى رسائلي إلى المدير العام قد وزعها على مديري الفروع والأقسام، وأعضاء مجلس الإدارة، والمستشارين، لدراستها وإبداء الرأي حولها. فعلمت أن المدير يحيل كل أمر إلى أهل الاختصاص، ولا تصدر قراراته إلا من خلال مجالس المؤسسة وبعد دراسة مستفيضة.أما صاحبي فلم يتغير قيد أنملة عما كان عليه. واستمر على نهجه، يوجه النقد اللاذع دون أن يقدم البديل المناسب. حاورته كثيراً فلم أفلح معه. إنه اتخذ لنفسه الطريق الأسهل. لا يكف عن نقد المديرين "الصغار" الذين تسلقوا الكراسي على أكتاف غيرهم، والذين تنقصهم الخبرة المتوفرة لدى أمثاله... إلى آخر القائمة الجاهزة من النقد والتجريح. فمدير القسم مستبد بالرأي لأنه لا يأخذ برأيه، والمدير العام دكتاتور زمانه... سألته مراراً وتكراراً: هل تعتقد بأن رأيك هو الأصوب؟ فيسكت. هل تظن أن رأيك هو الوحيد المقدَّم للمدير؟ فيسكت. هل في اجتماعكم الدوري كان رأيك وحيداً حول المسألة؟ هنا لا يتوانى عن وصف جميع الآراء التي قُدِّمت بأنها آراء صبيانية بعيدة عن الواقع والطموح... وأن رأيه لم يُسمع ولم يُؤخذ به، رغم أنه صاحب الخبرة والسمعة... الخ. ولما لم يعد يحتمل، استقال ورجع إلى بلده، حيث كانت وظيفته السابقة تنتظره. ومن حسن حظه وجد مسؤولين جدد لا يعرفون عنه كثيراً، فاستطاع أن يقنع المدير العام بإنشاء قسم خاص، فولاّه إدارته. لكن هنا جاءت مصيبته. فهذه أول مرة يستلم فيها إدارة، فكانت مهمة صعبة بذل فيها كل جهد ممكن حتى أقام القسم على رجليه، واختار لقسمه من المهندسين والموظفين مَن كان على مزاجه. لكنه لم يكن أحسن من أي مدير مرَّ عليه، فما هي إلا فترة وجيزة حتى بدأ العاملون تحت إمرته يتهمونه بالاستبداد بالرأي. وحيث أنه لم يكف عن انتقاد الإدارة العليا فإنهم ما لبثوا أن ضاقوا به ذرعاً، وتم تعيين مدير غيره للقسم الذي بناه بيده. وبدأ دوامة النقد من جديد، حيث عاد إلى مرتبة مهندس تحت إمرة "صبي من صبيان المدير العام" حسب تعبيره. ومن الطبيعي أنه لا يستطيع البقاء في وضع كهذا. وقد علمتُ حكايته من خلال رسالة قال فيها: لقد راسلت مديري السابق في مؤسستكم للعودة إلى عملي عندكم لكنه لم يرد علي، فهل تستوضح الأمر منه؟ ولما سألت هذا المدير أخبرني ببرود شديد أنه استلم طلبه وأوراقه لكن ليس لديه في الوقت الحاضر وظيفة تناسبه! كلية الهندسة، جامعة الملك عبد العزيز [email protected]