إذا كان الاختلاف حقيقة كونية، وضرورة شرعية؛ فلماذا يؤدي إلى التناحر والتشرذم والتفرق والضعف؟ .. إن السبب الرئيس في هذه المسألة هو غياب آداب وأخلاق الاختلاف، فكل يقول رأيي صواب لا يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ لا يحتمل الصواب.وأول آداب الاختلاف هي الأخوة الإنسانية عامة، والإسلامية خاصة: وبغياب هذه الروح يتحول الاختلاف إلى نقمة تفرق ولا تجمع، تهدم ولاتبني، تدمر ولا تعمر، ووجود هذه الروح سيضمن للجميع مسلمين وغير مسلمين، سنة وشيعة، إخوان وسلفيين، أن يتعايشوا في سلام ووئام. نعم هم مختلفون على مستوى الأصول كما هو بين المسلمين وغير المسلمين، أو على مستوى الفروع كما هو بين المسلمين وبعضهم، لكنهم متعاونون فيما اتفقوا عليه ويعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه.كلهم ينصت لقول الحق تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13)، ويقفون عند قول الصادق المصدوق: "كلكم لآدم وآدم من تراب...".يقول الفقيه الدكتور طه جابر العلواني في كتابه القيم (آداب الاختلاف): "إن من أهم الواجبات أن يدرك الجميع أن أخوَّة الإسلام، ووحدة صفوف المسلمين المخلصين والحفاظ عليها، ونبذ كل ما يسيء إليها أو يُضعف من عراها، فريضة من أهم الفرائض، وعبادة من أهم العبادات، وقربة من أفضل القربات.ولذلك فإن التفريط في الأخوة الإسلامية أو المساس بها لمجرد اختلاف في الرأي أمر لا يجوز لمسلم أن يقع فيه، أو أن يسقط في شراكه.. إن الأخوة في الله ووحدة القلوب بين المسلمين تحتل المراتب الأولى للواجبات، بل هي في مقدمتها؛ لأنها شقيقة التوحيد وقرينته، كما أن هناك مراتب للمنهيَّات يقع النيل من الأخوة في مقدمتها كذلك؛ ولذلك فإن علماء السلف كثيرًا ما يفعلون المفضول ويتركون الأفضل منه مراعاة للائتلاف وخروجًا من الخلاف، وقد يتركون المندوب، في نظرهم، ويفعلون الجائز تحقيقًا لذلك".ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المسلمون متفقون على جواز صلاة بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الأئمة الأربعة، يصلي بعضهم خلف بعض، ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ بالبسملة، ومنهم من لا يقرأ بها، ومع هذا فقد كان بعضهم يصلي خلف بعض، مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرؤون بالبسملة لا سرًّا ولا جهرًا.وصلَّى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم، وأفتاه مالك بعدم وجوب الوضوء فصلَّى خلفه أبو يوسف ولم يُعِد.. وكان أحمد يرى الوضوء من الحجامة والرعاف، فقيل له: فإن كان إمامي قد خرج منه الدم ولم يتوضأ، أصلي خلفه؟ فقال: كيف لا تصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك؟". ثاني هذه الآداب: الإخلاص والتجرد.. وقد كان الإمام الشافعي -رضي الله عنه- يقول كنت أناظر الرجل وأدع الله أن يظهر الحق على لسانه، فغاية الإمام رضي الله عنه ظهور الحق سواء كان على لسانه أو لسان غيره، فليس لديه رأي مسبق، ولكنه يتحاور ويناقش للوصول للحق، وليس التمادي في الباطل، حتى لو ظهر له بطلان رأيه وصواب رأي المخالف. ثالث هذه الآداب: الحوار بالحسنى؛ عملا بقول الله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل: 125)..يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: "نجد تفرقة في التعبير بين المطلوب في الموعظة والمطلوب في الجدال، ففي الموعظة اكتفى بأن تكون حسنة، أما في الجدال فلم يرض إلا أن يكون بالتي هي أحسن، بمعنى أنه إذا كان هناك أسلوبان، أو طريقتان إحداهما حسنة، والأخرى أحسن منها وأفضل، فالمأمور به أن نتبع التي هي أحسن.وسر ذلك: أن الموعظة ترجع -عادة- إلى الموافقين الملتزمين بالمبدأ والفكرة، فهم لا يحتاجون إلا إلى موعظة تذكرهم، وترقق قلوبهم وتجلو صدأهم، وتقوي عزائمهم، على حين يوجه الجدال -عادة- إلى المخالفين، الذين قد يدفع الخلاف معهم إلى شيء من القسوة في التعبير، أو الخشونة في التعامل، أو العنف في الجدل، فكان من الحكمة أن يطلب القرآن اتخاذ أحسن الطرائق وأمثلها للجدال أو الحوار، حتى يؤتي أكله".ولهذا استخدم القرآن في مخاطبة اليهود، والنصارى، تعبيرا له إيحاؤه ودلالته في التقريب بينهم وبين المسلمين، وهو تعبير (أهل الكتاب) أو (الذين أوتوا الكتاب) ولهذا جاء في القرآن مثل قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) (سورة النساء: 171).. حتى المشركون الوثنيون لم يخاطبهم القرآن بقوله: (يأيها المشركون) بل كان يناديهم بقوله: (يأيها الناس).ولم يرد في القرآن خطاب للمشركين بعنوان الشرك أو الكفر، إلا في سورة (الكافرون) وذلك لمناسبة خاصة هي قطع الأمل عند المشركين أن يتنازل المسلمون عن أساس عقيدتهم، وهو التوحيد.