تُطلق كلمة : " الحَدّ " على كل عقوبة مُقَدّرَةٍ، سواء كانت مقدرة لرعاية حق الله تعالى أم لصيانة حق بشري، ويطبق الحد في الحالات الآتية : القتل العمد - الزنا - القذف - شرب الخمور - الحرابة - السرقة .. وقد أُطْلِقَ عليها اسم الحَدِّ، لأنها أقصى العقوبات في إيلام مَنْ تجاوز حَدَّهُ، واعتدى على حق من حقوق الله أو العباد، ومن ناحية أخرى : تعتبر الحدود هي النقطة التي لا يحق للقضاء تجاوزها في معاقبة المذنبين، ولكن يجوز تخفيفها . لتقريب الفكرة التي تبدو للوهلة الأولى أنها جديدة شكلياً، إلا أنها تمثل جوهر الإسلام في مقاصده الشرعية السامية التي تهدف إلى الإصلاح، وليس إلى صب العذاب على العصاة، وإلحاق الضرر بالمخطئين وأسرهم، لأن آثار بعض العقوبات تمتد إلى كل الأفراد الذين يعيشون عالة على المذنبين، والإسلام السمح لا يتربص بالبشر، ولا يتحسس عليهم للكشف عن معاصيهم ثم توقيع العقوبات عليهم، ولكنه يريد أن يصلح كل مَنْ ضَلَّ الطريق المستقيم . فأقول وبالله التوفيق : من المعروف أن المواطن يستطيع أن يتحرك داخل حدود بلاده بكل حرية، ولكن يمُنع من تجاوز حدودها بطرق غير مشروعة، فإذا سَوَّلَتْ له نفسه أن يتجاوز الحدود بأسلوب غير قانوني يطلق حرس الحدود النار عليه، فقد يموت نتيجة لذلك، وإنْ نفذ، فإن حرس الحدود لدولة الجوار يُطلق النار عليه، فيموت إن هو أَصَرَّ على تجاوز الحدود بعيداً عن إجراءات السلطة المختصة في الحدود بين بلدين . ولذلك فإن الكبائر هي الخطوط الحمراء التي لا يحق لأحد تجاوزها وإلا كانت عقوبته معروفة، وهي تطبيق الحدود الشرعية عليه، وهي الحد الأعلى للعقوبات، ولكن يجوز إسقاطها، لأن المشروع الحكيم أتاح الفرصة لذلك عن طريقين اثنين : الأول : عن طريق درء الحدود بالشبهات، لقوله صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث الصحيحة : ٭ عن عبدالله بن مسعود أنه قال : " ادرأوا القتل والجلد عن المسلمين ما استطعتم ". ٭ روى البيهقي بسنده عن ابن مسعود : " ادرأوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم ".. ٭ وأخرج البيهقي بسنده عن علي بن أبي طالب أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ادرأوا الحدود، ولا ينبغي للإمام أن يعطل الحدود ".. ٭ أخرج الدار قطني بسنده عن عمر بن شعيب عن أبيه أن عبدالله بن مسعود ومعاذ بن جبل وعقبة بن عامر الجهني قالوا : " إذا اشتبه عليك الحد، فادرأ ما استطعت ".. ٭ عند ابن شيبة بسنده قال عمر بن الخطاب : " لأن أعطل الحدود بالشبهات، أحَبُّ إليَّ من أن أقيمها بالشبهات ".. ٭ عند ابن ماجة بسنده عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ادفعوا الحدود، ما وجدتم لها مدفعاً ".. ٭ أخرج الترمذي بسنده عن عائشة رضي الله عنها قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ".. الثاني : عن طريق التوبة كما جاء في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة . ٭ لقوله عز وجل : " إن الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ٭إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فأعلموا أن الله غفور رحيم " الآية : 33، 34 من سورة المائدة . ٭ لقوله تعالى : " والسارق والسارق فاقطعوا أيديهما، جزاءً بما كسبا، نكالاً من الله، والله عزيز حكيم، فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح، فإن الله يتوب عليه " الآية : 39 من سورة المائدة . وتسير الأحاديث النبوية الصحيحة في الاتجاه نفسه، ولعل من المناسب أن اذكر بعضها : ٭جاء في حديث هزال الذي رواه مالك في الموطأ، وكان هزال قد جاء ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة، فقال له عليه الصلاة والسلام : يا هزال : " لو سترته بردائك، لكان خيراً لك ".. ٭ جاء في الصحيحين عن أنس أنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فقال : يا رسول الله، إني أصبت حداً، فأقمه عليَّ .. فلم يسأله النبي عنه، فحضرتِ الصلاةُ، فصلى مع النبي عليه السلام، فلما قضى النبي الصلاة، قام إليه الرجل، فأعاد عليه قوله، فقال له النبي : أليس قد صليت معنا؟ قال الرجل : نعم . فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : " فإن الله قد غفر لك ذنبك ".. ٭قال النبي صلى الله عليه وسلم : " التائب من الذنب كمن لا ذنب له ".. وهكذا نجد في القرآن والسنة امكانية اسقاط الحدود، إلا أن الملاحظ على بعض القضاة عندنا أنه يبالغون في أحكام التعزير بالسجن بالسنوات والجلد بالآلاف التي تضر بأسر المذنبين وتقضي على مستقبلهم في بعض الحالات، وهي أحكام تجاوزت السقف الأعلى للحدود في بعض الأحكام القضائية وتتجاهل المقاصد السامية للإسلام من العقوبات، وهي إصلاح المنحرفين، وليس تعويق مصالحهم وإلحاق الأذى بأزواجهم وأبنائهم جراء الحكم بسجنهم مدداً طويلة دون مراعاة لظروفهم الاجتماعية . فإذا كانت الحدود تسقط بالشبهات أو بالتوبة فمن الأولى إسقاط الأحكام التعزيرية القاسية في مواجهة أخطاء بشرية تدخل في دائرة اللمم، وإبدالها بعقوبات أخرى مثل التشهير، أو إلزامه بقراءة بعض الكتب المفيدة التي ترفع ثقافته الدينية، أو فرض تبرعات توزع على الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل والمرضى والجمعيات الخيرية، أو التبرع بالدم، أو خدمة المرضى والمعاقين لمدة معينة، أو تنظيف الشوارع، أو تعلم مهنة أو مهارة معينة، أو التجنيد الاجباري،ويمكن ان يكون التعزير بالتوبيخ والزجر والوعظ والتخويف، وما شابه ذلك .