صدم كثيرون من جرأة التصريح الأخير لوزير المالية حول توقعه إفلاس الكثير من منشآت القطاع الخاص "أو التجار ورجال الأعمال"، وصدموا أكثر حينما بين في مواجهة تلك الاحتمالات ضرورة تسريع إجراءات إعلان إفلاس تلك المنشآت، على عكس ما توقعوا أنه كان مفترضا أن يصرح بكيفية إنقاذ تلك المنشآت من نهايتها المحتومة! وقد كان وقع الصدمة أكبر ألما بدرجة أعلى من غيرهم على عموم التجار ورجال الأعمال. لن أخوض في الدفاع عن وجهة نظر وزير المالية، أو التبرير لها، أو حتى معاكستها والاعتراض عليها، بقدر ما أنه من الأهمية الفهم الشامل ومن ثم اتخاذ القرار الأنسب وفقا للظروف الراهنة التي يمر بها اقتصادنا من تحولات، نتيجة إعادة هيكلته بالكامل، سبق تلك التحولات انعكاس مسار أسعار النفط بدءا من منتصف 2014، وما تلا ذلك التاريخ من ضغوط متفاقمة عديدة، تركت آثارا سلبية واسعة على مختلف أنشطة الاقتصاد، تأرجحت بين القوية جدا إلى حد التأثير الطفيف، إلا أنها كانت في المجمل ذات آثار معاكسة لرياح النمو الاقتصادي، أعادته من معدل نمو سنوي كان يحلق فوق 5.4 في المائة حتى 2012 (نمو القطاع الخاص 5.6 في المائة)، إلى مستويات استقرت به حتى نهاية العام الماضي تحت 1.4 في المائة (نمو القطاع الخاص 0.2 في المائة). يجب التأكيد هنا على أهمية الفهم الشامل لتفاعل كل تلك التطورات والمتغيرات، ودراسة واستنتاج خلاصة انعكاساتها إيجابا أو سلبا في نهاية الأمر على مختلف نشاطات ومكونات الاقتصاد الوطني بالتفصيل، وبناء عليه يتم إقرار السياسة الاقتصادية أو الإجراء اللازم تجاه كل نشاط ومكون، أخذا في الاعتبار وزنه النسبي في القيمة المضافة لنمو الاقتصاد، ومساهمته في تنويع قاعدة الإنتاج، زائدا مساهمته في توفير فرص العمل للمواطنين والمواطنات. تقتضي هذه المنهجية التفريق التام بين كيانات القطاع الخاص، وبناء على تلك الاعتبارات أعلاه؛ سيكون "إنقاذ ودعم" الكيانات والمنشآت الإنتاجية التي تحتل ثقلا نسبيا بالغ الأهمية في ميزان القيمة المضافة للاقتصاد، أو على مستوى تنويع قاعدة الإنتاج، أو على مستوى توظيف العمالة الوطنية، أؤكد أنه سيكون الخيار الأول والأخير الذي لا يصح التزحزح عنه قيد أنملة واحدة، دون النظر إلى تكلفته مهما بلغت، التي لا ولن تقارن إطلاقا مع حجم الخسائر الفادحة اقتصاديا واجتماعيا إذا سمح لقعر الإفلاس أن يبتلعها إلى غير رجعة! وأنى لأحد أن يحصي الخسائر الهائلة لسقوط أحد مكونات الاستقرار الاقتصادي والمالي والاجتماعي في أي اقتصاد حول العالم؟ ومن هو الطرف الذي سيكون على أتم الاستعداد لتحمل النتائج الوخيمة لسقوط جزء رئيس من ركائز النمو والاستقرار الاقتصادي؟ الإجابة هنا: لا أحد على الإطلاق! في المقابل؛ قد تجد بعض كيانات أو منشآت القطاع الخاص لا يتجاوز مجرد كونه "إفرازا أو نتيجة" للتشوهات الهيكلية التي يعانيها الاقتصاد الوطني، وحال زوال تلك التشوهات لأي سبب كان، كانت النتيجة الحتمية زوال تلك الكيانات وسقوطها في دائرة الإفلاس! فلا شك أن الخيار في هذه الحالة هو تركها لقدرها المحتوم لتتلاشى غير مأسوف عليها، سيتأكد جدوى هذا القرار أو الخيار حال ثبوت ضعف مساهمتها في النمو الاقتصادي، أو على مستوى تنويع قاعدة الإنتاج، أو على مستوى توظيفها للعمالة الوطنية، وأنها لم تكن سوى كيان "سام" أسهم في امتصاص الفرص والثروات، والرحيل بفوائضها إلى خارج الحدود! وكم سيكون خطأ فادحا إن تم التعامل مع مثل تلك الكيانات أو المنشآت السامة اقتصاديا واجتماعيا، بالتعامل نفسه "الإنقاذ" المأمول مع المؤسسات والمنشآت الوطنية التي أثبتت جدواها؟! خلاصة القول؛ سيعترض طريق كيانات القطاع الخاص كافة خلال المرحلة الراهنة ومستقبلا الكثير من التحديات الجسيمة، منها ما تقتضي المسؤولية والواجب الوطني من مختلف الأجهزة الحكومية العمل الجاد على حمايته ودعمه مهما كلف الثمن، ومنها ما تقتضي الاعتبارات ذاتها تركه يواجه قدره المحتوم. أما المعيار أو الاعتبار الذي بناء عليه يمكن التعرف على حقيقة تلك الكيانات أو المنشآت، فهو كما تقدم ذكره المكون من ثلاث ركائز: (1) وزن الكيان في المحصلة النهائية للقيمة المضافة للاقتصاد الوطني. (2) مستوى مساهمته في تنويع قاعدة الإنتاج المحلية. (3) مستوى مساهمته في توظيف العمالة الوطنية. إنها الركائز أو الاعتبارات التي قد يواجه تحديدها بدقة وموضوعية، الكثير من الاختلاف وعدم الاتفاق، إلا أن الاتفاق عليها وتحديدها بصورة محددة في نهاية الأمر من قبل وزارة الاقتصاد والتخطيط، أخذا بعين الاعتبار حجم تلك المنشآت أو الكيانات (عملاقة، كبيرة، متوسطة، صغيرة)، يمكن تحقيقه والتوصل إلى منهجية متكاملة له يمكن الوثوق بها، والاعتماد عليها للخروج بقرارات تقرر المصير النهائي لأي من تلك المنشآت، مع التأكيد التام على أهمية ما يتطلبه تحديد تلك الركائز أو الاعتبارات من قبل وزارة الاقتصاد والتخطيط، والأولوية القصوى بأن تتشكل فرق عمل إقرار تلك الاعتبارات من الكفاءات وذوي الخبرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية "الوطنية فقط"، والضرورة القصوى أيضا لإخضاع أعمال تلك الفرق للإشراف والرقابة والمتابعة بصورة مستمرة ودقيقة، لما تتصف به مهام وتفاصيل أعمالها من حساسية شديدة، وكون القرارات التي ستبنى عليها مصيرية جدا وذات آثار عميقة من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها. والله ولي التوفيق.