هذه الآية الكريمة يعتبرها الناس القول الفصل، والقضاء الذي لا يقبل الاستئناف، على تميز الذكر وارتفاعه على الأنثى، ويرددون هذه الآية على أفضلية الذكر مطلقًا على الأنثى دون قيد أو شرط، مع أن تفسيرها الصحيح يعطي معنى مغايرًا لما يستدلون به. وإليك بيان هذه القصة كاملة في كتاب الله جل وعلا: «إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {35} فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {36} سورة مريم والمراجع لكتب المفسرين يجد أن تفسير قوله تعالى ( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى ) مرتبط بما قبله متصل به ، وأن معنى الآية يختلف باختلاف القراءة الواردة فيها ، و الآية لها معنيان : 1 جاءت قراءة الجمهور بسكون التاء في قوله ( وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ) فيكون قوله تعالى ( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) من كلام الرب تبارك وتعالى على جهة التعظيم لما وضعته، والتفخيم لشأنه، والإجلال لها ، حيث وقع من أم مريم التحسر والحزن على إنجاب الأنثى مع أن هذه الأنثى التي وضعتها سيجعلها الله وابنها آية للعالمين، وعبرة للمعتبرين، ويختصها بما لم يختص به أحدًا .... لقد تمنت أم مريم ذكرا تنذره لخدمة بيت المقدس تلك البقعة المباركة ، فحقق لها الكريم فوق ماتتمنى إذ رزقها امرأة سيكون لها ولابنها شأن عظيم ، وستتسع دائرة النفع لتتعدى خدمة بيت المقدس لدعوة أفراده ، وعلى هذا المعنى تكون اللام في الذكر والأنثى في هذه الآية للعهد ، فليس الذكر الذي تمنيته ياأم مريم كالأنثى التي وضعتها ، إن الأنثى التي وضعتها أفضل عند الله ، وأعظم شأنا ، فتكون الآية في تفضيل الأنثى التي وضعتها مريم عليها السلام على الذكر الذي تمنته ، يقول أبو السعود : \" وليس الذكر كهذه الأنثى في الأفضلية \" . 2 وقرأ أبو بكر وابن عامر بضم تاء ( وضعتُ ) ، فيكون قوله تعالى ( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى ) من جملة كلام أم مريم ، ومن تمام تحسرها وتحزنها أي ليس الذكر الذي أردت أن يكون خادمًا ويصلح للنذر كالأنثى التي لا تصلح لذلك ، وإنما كانت الأنثى لا تصلح لخدمة الكنيسة لما يعتريها من الحيض؛ ولأنها لا تصلح لصحبة الرهبان ، لقد كانت أم مريم تنتظر ولدا ذكرا ،لأن النذر للمعابد لم يكن معروفا إلا للصبيان ليخدموا الهيكل ، وينقطعوا للعبادة ، والتبتل ، ولكن هاهي ذي تجدها أنثى فتتوجه إلى ربها ، لبيان حالها \" رب إني وضعتها أنثى ..\" وكأنها تعتذر أن لم يكن ولد ينهض بالمهمة ، فتقول \" وليس الذكر كالأنثى \" فتكون الآية، إخبار عن قول أم مريم؛ فلم تأت الآية إذن لتقرير واقع، وإثبات حقيقة ولم تقصد أم مريم الانتقاص من شأن الأنثى؛ وإنما قالت ذلك لتبين أن وظيفة الذكر مختلفة عن وظيفة الإناث، وما يصلح له لا يصلح لها، لكن تبين لها ولغيرها فيما بعد أنها رزقت بأنثى فاقت الذكور حظا، وتقبل الله هذه البنت بقبول حسن، وقامت بالدور الذي تمنته أمها، بل كانت أمًّا لرسول من أولي العزم. يقول الشيخ السعدي : \" كان في هذا الكلام نوع تضرع منها وانكسار نفس حيث كان نذرها بناء على أنه يكون ذكرا يحصل منه من القوة والخدمة والقيام بذلك مايحصل من أهل القوة ، والأنثى بخلاف ذلك ، فجبر الله قلبها وتقبل الله نذرها وصارت هذه الأنثى أكمل وأتم من كثير من الذكور ، وحصل بها من المقاصد أعظم مما يحصل بالذكر\" . وفي هذا عظة وعبرة لكل أب وأم؛ فالخيرة فيما يختاره الله، وكم من أنثى نفع الله بها والديها ما لم ينفعهما بذكر ، و تأمل قوله تعالى : \" يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ...\" كيف قدم هبة الإناث على الذكور ، وقد كان الأنبياء أباء بنات ، ولنسعى لحملة توعوية شرعية لفهم النص الشرعي في سياقه ، وفي ضوء فهم السلف الصالح له . نوال العيد [email protected]