في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات الهجرية حدثت طفرة زراعية في جميع نواحي الوطن، استمرت حتى عام 1395ه تقريباً. وكانت هذه الطفرة الزراعية تختلف اختلافاً جذرياً عن الطفرة الزراعية التي حدثت في بداية 1400ه . لأنها اتجهت مباشرةً إلى الطبقة الزراعية الصغيرة، واعتمدت في خطتها على التنويع الزراعي وخاصة زراعة الخضروات والفواكه, وإنعاش الفلاحين والمزارعين الصغار, واعتمدت أيضاً على توجيههم التوجيه الصحيح، وكانت المساعدات التي تدفعها الدولة تعتمد على أنواع البذور الجيدة، والمحصولات الزراعية الجديدة، ومساعدة الفلاحين بالمبيدات الحشرية والأسمدة وتعتمد في ريها للمزارع على الطرق القديمة التي ساعدت على إعادة المياه مرةً أخرى إلى الأرض بدل الري المحوري والذي جعل المياه تتبخر بدل تسربها إلى باطن الأرض, مما جعل منسوب المياه الآن يفقد جزءاً ضخماً من الاحتياطي حتى وقعنا في أزمة لا ندري كيف الخروج منها. وكانت الخطة القديمة العملاقة أدت إلى نزوح فلاحين مع عوائلهم إلى الأراضي الجديدة التي ابتدعتها الدولة، وخاصة في منطقة البطين والدغمانيات والراشديات. وصرنا نشاهد مناطق زراعية لم تكن بالحسبان، تعتمد في عملها على الأيدي الوطنية من رجال ونساء وحتى أطفال. فحدثت ثورة عمل منقطعة النظير، وصارت البراري المنقطعة تنبض بالحياة وبحركة دائبة كخلية نحل. وهذه الثورة الزراعية تختلف عن التالية والتي قامت عام 1400ه. حيث إن هذه الخطة الجديدة تعتمد على زراعة القمح فقط ومن صالح رجال الأعمال والطبقة الزراعية القادرة. فقد جلبت معها الأيدي العاملة الأجنبية، وأصبحنا سوقاً مشرعاً للمنتج الأجنبي، والأدوات الزراعية الضخمة والتي تباع علينا بملايين الريالات، وقامت الدولة بشراء منتج القمح بثلاثة ريالات للكيلو الواحد، بينما سعره الدولي 18 قرشاً فقط. ذهب المال إلى جيوب الأغنياء والمصانع الأجنبية، واليد العاملة الأجنبية، ولم يستفد منها ابن البلد بأي شيء . كما أنها خربت الأراضي الزراعية البكر، ولوثت الأجواء بمخلفات الحرائق وغيرها، ونهبت كميات هائلة من الاحتياطي المائي للوطن، ولو استغنينا عنها لاحتفظنا بالاحتياطي المائي وببكارة أراضينا، ووفرنا أموالنا في جيوبنا ولاستغنينا تماماً عن هذه اليد العاملة الأجنبية، ولاكتفينا بشراء القمح من الأسواق العالمية وهو أفضل بكثير، ولكن هذا ما حصل ولا يمكن إعادة الأحوال إلى ما كانت عليه . نعود إلى أيامنا الأولى وثورتنا الزراعية التي حدثت في الثمانينات والتسعينات من القرن الهجري الماضي، والتي كانت هادفة ومخططةً تخطيطاً جيداً استفاد منها الجميع. تلك الثورة العملاقة أنتجت محاصيل كثيفة وجديدة لم تُعرف من قبل مثل الخس، والجزر، والكوسة، والبطاطس، والبطيخ بجميع أنواعه والعنب والرمان، وأصبحت الحاجة ملحة إلى إيجاد أماكن وأسواق واسعة جديدة بدل \"قبة رشيد\" التي صارت لا تستوعب هذه الكميات الكثيرة والمتنوعة، فأصبحت ساحة القصر الشرقية والجنوبية هي المكان المناسب لذلك. من هنا استعاد القصر أهميته مرةً ثانية بعد ما كان نسياً منسياً، كان في الماضي مكاناً لإدارة الحكم ووضع الخطط الحربية، وحماية البلد، والآن بدأ يقوم بدورٍ آخر، حيث إنه تحول إلى مصنع للرجال وبناء الأجيال المستقبلية التي لعبت دوراً مهماً فيما بعد، عندما صارت هي القوة التي أدارت هذا الوطن العزيز بعدما تخرجت من هذا السوق العظيم. نحن نمر الآن من هذه الساحة العظيمة عابرين ولا نكاد نلقي عليها السلام، أو نتوقف لحظة سكون عام احتراماً لهذا الميدان العظيم. جميع آبائكم أيها القراء الشباب يعرفون جيداً ما ذا تعنيه تلك الأيام الماضية، كما أنهم يعرفون جيداً هذا السوق العظيم، وكيف صنع لنا رجالاً يفخر بهم تاريخنا. غالبية المحاصيل الزراعي كانت تنتج في فصل الصيف وفي بداية العطلة المدرسية، مثل البطيخ مما ساعد الشباب على العمل والمشاركة الجدية في العمل والاستفادة من الإجازة الصيفية واستثمار الوضع الجديد. مما أدى إلى حصول هؤلاء الشباب على عائد جيد ومبالغ لا بأس بها تساعدهم في توفير مصروف جيد في أوقات الدراسة الطويلة، إذا علمنا جيداً أن في تلك الأزمان الماضية لم يكن في قاموس الآباء دفع أي مصروف لأبنائهم، لأنهم يطبقون القانون الأممي الجاد والذي يقول \"لا مال بلا مقابل\" هذا هو مبدأ العصامية عند الشعوب الجادة حيث الابتعاد ما أمكن عن تخريب الأجيال.أما اليوم فنحن نرى نتيجة أعمالنا وتجاوزنا عن هذا المبدأ الذي أدى في النهاية إلى إنتاج شباب لا يعتمد عليهم لا في الحاضر ولا في المستقبل. كان مبدأ \"لامال بلا مقابل\" متعارفاً عليه حتى بين الطبقات الغنية إلى وقت قريب، حيث كان الناس يحرصون كل الحرص على تربية أفراد قادرين على مواجهة الحياة, وكانت النتيجة لتجاوزنا هذا المبدأ أنه أصبح لدينا كمية هائلة من أشباح الشباب، لامعنى لهم ولا هدف لديهم. على ساحة القصر تبدأ المعركة صباحاً بعد صلاة الفجر يتم الحراج على الكميات الهائلة من البطيخ التي وردت من مزارع البطين وغيرها من المناطق الأخرى، فتنطلق أصوات الدلالين معلنة بداية الحراج, ثم يستعد التجار لمناوراتهم المدروسة جيداً، ويبدأ الكر والفر، وتتعالى الأصوات من كل جانب، وتتصور وأنت ترقب الوضع أن هناك معارك حقيقية. تمتزج الأصوات بعضها ببعض، وتختلط مع أصوات السيارات والحمير وكثرة المنادين على بعضهم، والملحمة تتصاعد شيئاً فشيئاً، ويختلط الحابل بالنابل، وتشعر وأنت تقف في وسطها أن الأرض زلزلت من تحت قدميك, بعد ساعات قليلة تهدأ وتخف الأصوات المجلجلة وقد بيعت كل الكميات تقريباً. ثم تبدأ بعدها معركة من نوع آخر، معركة شحن هذه البضائع إلى الدمام والرياض وجدة وحتى دول الخليج، لأن الكمية الهائلة من البطيخ المجلوبة أكثر من احتياج المدينة . ولا بد من تصديرها إلى أسواقٍ أخرى وبأقصى سرعة قبل أن تفسد . جيوش الشباب والبراعم الصغيرة كانت تتواجد في الساحة ومستعدة لشحن الحمولات على الشاحنات المتوقفة التي تنتظر نصيبها. يتوافد الفتية والشباب من كل جهات المدينة، لا فرق بين ابن الغني وابن الفقير، الكل يحاول أن يثبت جدارته والحصول على مبالغ مجزية، لأنهم كانوا يهيئون أنفسهم وهم في أواخر السنة الدراسية. ترى مئات البراعم يتوزعون على شكل فرق، كل خمسة أو ستة يحكمهم رئيس، كل فرقة تستلم شاحنة، ولا يأتي موعد أذان الظهرإلا وكل فرقة قد شحنت سيارتين أو ثلاثاً، بعمل شاق ومضنٍ يدفعهم إلى ذلك الرجولة والطموح المنقطع النظير. كانت أجرة الشخص الواحد للسيارة الواحدة خمسة ريالات. والرئيس الذي يكون مسئولاً مسئولية تامة عن تنظيم البطيخ على السيارة أمام صاحب العمل يستلم سبعة ريالات، ولا ينتهي العمل إلا وقد حصل كل فردٍ منهم على خمسة عشر ريالاً، إذا عرفنا أن هذا المبلغ يشكل في ذلك الوقت قيمة لا بأس بها، وأن هذا المبلغ يستطيع أن يصرف على عائلة أربعة أيام أو خمسة. تنتهي هذه الفترة من العمل عند أذان الظهر، لتبدأ بالمساء فترةٌ جديدة أخرى، وهي تنزيل حمولة الشاحنات التي جاءت من المزارع، لتأخذ دورها في الصباح الباكر.ترقُب هذا المشهد وأنت ترى هؤلاء البراعم معصبي رؤوسهم بغترهم ورافعي أكمامهم إلى أعلى السواعد. لا بد أن تحكم وأنت ترى كل ذلك العنفوان في الشباب والصبيان على أنه عنوان النجاح. دارت بنا الأيام وها نحن نرى حالتنا اليوم وحالة شبابنا. شبه ميؤوس منها. اليوم ينوب عن أبنائنا أجناس لايمتون للوطن بصلة. إنها سخرية من سخريات القدر التي أرجو أن لا تطول وتعود المياه إلى مجاريها، ونعود لتسجيل الانتصارات. في ساحة القصر وأثناء هذا العمل الشاق يحدث أشياء وأشياء ونكات ومقالب بين البراعم لتجميل جو العمل. من هذه المقالب مثلاً: أن بعض أصحاب العمل يكون شديداً ولا يريد أي فرصة تضيع، حتى أنه لا يسمح لهم بشرب الماء نتيجة العمل بهذا الجو الحار، فيتحايلون على الموقف لإيجاد مخرج من هذه الأزمة, فيقوم أحدهم بقذف البطيخة على زميله الذي يتناولها في الشاحنة ولكنه يقذفها بطريقة مائلة فتسقط وتنكسر، ثم يهجمون عليها ويبتلعونها بدل الماء تحت وطأة جوٍ صاخب من رب العمل، والتهديد والوعيد بخصم قيمة البطيخة ولكن الشباب لا يكترثون بذلك . وبهذه المناسبة لا بد من ذكر بعض النوادر الجميلة عن المجتمع نفسه. فقد حرم بعض السذج تناول الخضروات الجديدة التي لا يعرفها المجتمع قبل ذلك مثل الخس الجزر البطاطس والفجل، وادعى بعضهم أن من تناولها \"ديوث\" حتى وصلت الأمور أن قال: إنها من مأكولات اليهود والنصارى ومن أكلها فإنه يتشبه بهم، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم. كما حصل في فترة الستينات الهجرية عندما ادعى بعضهم بأنه لا تقبل شهادة شارب الشاي، ووصل الأمر إلى قياسه بالخمر. فكل جديد عند الشعوب المتخلفة يعتبر محرماً حتى تثبت براءته. موعدنا في الحلقة القادمة عن \"الجردة\" . موسى النقيدان