المذيعة القديرة في قناة الجزيرة ذات التقاسيم الجادة والصارمة خديجة بنت قنة لم تتمالك نفسها عن التعاطف بعينيها وحاجبيها إزاء ابنة مايكل جاكسون باريس عندما عبرت عن مشاعرها في حفل تأبين والدها بالانتحاب والبكاء .. فمن العيوب المخلة بمهنة الصحافة الميل جانب حدث أو الإفصاح بالانتماء ضمن رأي محدد خاصة في نشرات الأخبار المحايدة . والمذيعة لم تكبح مشاعرها تجاه الطفلة البريئة رغم رباطة جأشها وعنفها في الحوارات ومقاطعاتها الحادة مع أشرس المعارضين .. كل ذلك وغيره من التقارير العالمية مبرر بديهي للثرثرة عن الحياة الثرية والدرامية لمغني البوب الاستثنائي مايكل جاكسون . ففي الثمانينيات لم تكن القنوات الفضائية بل التلفزيون بالأبيض والأسود ، إلا أن شهرته اجتاحت الكرة الأرضية برمتها إلى الدرجة لم يسلم التلفزيون السعودي من غبار أغانيه خاصة في أغنية thriller التي تغلغلت موسيقاها في المصارعة الحرة كمقدمة لها ، وبقيت موسيقى تلك الأغنية في هذا البرنامج الذي يقدمه المرحوم إبراهيم الراشد على مدى ثلاثين عاما دون أن يدرك المتلقى بأن هذه الموسيقى لجاكسون \" الشيطان الرجيم \" .. وحتى الآن من يستمع إلى إذاعة \" البرنامج الثاني من جدة \" يلحظ أن الفواصل الموسيقية بين الحوارات مع المتصلين يجدها من أغاني ملك البوب الشهيرة كbillie jean أوsmooth criminal أو BAD .. وغيرها ، مع أن ألبومات جاكسون المسموعة والمرئية ممنوعة من السوق السعودي حتى الآن . ومع المحافظة الشديدة للإعلام السعودي ، وتحديدا المرئي ، الذي يمنع ظهور كوكب الشرق وفيروز ، إلا أنه لم يتنصل من موسيقى جاكسون التي أصبحت كالهواء في القارات السبع ، فانتشرت أخباره مع نسيم كل صباح وراح الصبية يقلدون مشيته المذهلة المسماة moonwalkإلى الدرجة التي قلدوه في قصة شعره وملابسة ورقصته فصارت شخصية مثيرة عجائبية ساحرة يتوقف جهاز الريموت عن القناة التي تمر – مصادفة – عن خبر من أخباره ، أو أداء من أغانية ورقصاته على المسرح . ولا يتوقف المد الابداعي العجيب عند الإثارة في أزيائه ورقصه والكاراكتر الخاص به ، فقد يمج بنو جلدتنا \" العقلاء \" ذلك لأن العقل عندهم زينة ! لكن جاكسون أتى بما لم تأت به الأوائل من حيث تجاوزه للحدود الإقليمية إلى العالمية بأغانيه عن السلام وعن سلامة البيئة وعن أطفال الإيدز ومرضى السرطان وضحايا الحرب وعن الحب وعن القلق النفسي .. وكل هذا يرافقه أداء متوائم مع نفس الفكرة وانسجام نفسي وروح تفوح منها رائحة الانفعال والامتزاج الذي يجعله يطرح نفسه في الأرض ويبكي بحرقة وصدق بعد نهاية الأغنية .. لماذا ؟ لأنه طفل كبير .. ! وبصراحة صعب أن يصدق ذلك إلا فقط لمن شاهد ثلاث دقائق كملخص سريع لمسيرته الفنية والتي أخرجت إخراجا مدهشا يصعب تصديقه إلى المرحلة التي تقشعر لها الأبدان من الإثارة والتعاطف والفضول وقدرة الفن والموسيقى على سحر النفوس وإثارة الوجدان وفعل العقل والجسد واستنطاق الروح نحو الحركة والتعبير عن الكينونة البشرية التي يثبت الفنان جاكسون بمؤهلاته المكتملة على قدرته وقدرة الفن على إشباع الإنسان وإرضاعه بالفن وأهميته القصوى التي لاتقل عن أهمية المعرفة والعلم الأساسي في تنمية العقل والوجدان .. لماذا استطاع جاكسون ولم يستطع غيره ؟ لأنه عاش طفلا وكبر طفلا ومات طفلا ! فبقي عنصر الدهشة فيه كالعاهة في جسد الإنسان ، وبقي يدهش العالم بجنونه الصاخب أبد الآبدين ، وللأسف عرف العالم العربي فيه مايراه من حركة جسد التي حدد مفهومها بالصخب القادم من الغرب والهامبورجر وأفلام رعاة البقر وجيمس بوند ، لكن ماذا يقال عن فلكلورنا الشعبي المدبب بالخناجر والسيوف والطبول القادمة من كهوف الجبال ! ولد مايكل جاكسون بعشق فطري للطرب لكونه أسودا فرضع من ثدي العائلة التي تتنفس الفن فانخرط في فرقة5 وصار عضوا متمردا ثم قائدا وهو أصغرهم يرقص بتلقائية ويغني بتلقائية كطائر يغرد ليعيش ، فزود بجسم رياضي لم يخلق إلا ليرقص ويغني مفعم بالكترونات كهربية بصرامة ولطف وانسيابية وصخب ، وبقدرة غريبة في الجمع بين سرعة الحركة والغناء في نفس الوقت والانفعال الحقيقي بما يقول والامتزاج مع مشاعر الجماهير اللاهبة .. لماذا ؟ لأنه لحن الأغنية ونظم كلماتها وعاش تجربتها .. فهو شاعر وملحن ومغني ومطرب ولديه لغة عالمية لايتقنها إلا هو وهي لغة الجسد ! وجانب مهم من جوانب العبقرية والإبداع يتمثل بالألم الذي يدفع النفس للصهيل نحو الجنون المدهش كالهوى والعشق الذي لايفسر. فجاكسون ولد أسودا في مجتمع ذاق أيامها مرارة العنصرية وثوراتها المزلزلة ، وذاق عقوق الأب الذي لايرفع عنه السوط إلا ليلهبه به مرة أخرى ، ومن هنا لم يستطع عيش طفولته كما يجب لبقية الأطفال فقد كانت حياته عملا متواصلا وكأن معزوفة أغانية نحيبا متواصلا انتهى بهذه النهاية المأساوية.. نستطيع أن نقول عنه بأنه \" نسيج وحده \" فما أن يظهر بقامته على الشاشة حتى تنثال الأسئلة وتشخص الأعين بالمشاهدة ومتابعة الحركات المكهربة والغير متوقعة وكأن في طيات هذا النسيج أسرار الفنون كلها تفصح بشيء واحد لايدرك كنهه فكلما اقتربت منه استغلق عليك .. وكلما أبغضته دنوت منه .. يسمعك الخشونة والنعومة والنشاز والرخاوة في وقت واحد فتبدو كلها شرابا شهيا يطرب الأذن والعين والعقل في آن واحد .. بعد وفاة هذا الفنان العظيم وبغض النظر عن كل ماقيل فيه من شذوذ وكذبة هجائه وكرهه للعرب وأطواره الغريبة بدت ردود الأفعال في عالمنا العربي فاترة وشامتة عدا كتاب وصحفيون معدودين ، وكأن ذباب الانترنت وأشباحه لايقع إلا على الشماتة والغبطة حتى بالموت ولم يدركوا أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عند مرور جنازة فنهض ، فقال الصحابة : إنها ليهودي ، فقال عليه الصلاة والسلام : أليست نفسا ؟ سيد البشر يعلمنا التسامح والعقلانية والتوازن ، ونحن ثقافتنا تعلمنا العنصرية وكره الفن وكره الآخر ومعرفة الجانب السيء من كل شيء حتى غدت عقولنا سلة مهملات لاتعرف غير الأسوأ والأسود والفرح بمصائب الآخرين وهي تلك الإنجازات التي أجدنا صناعتها .. وعقبال المزيد من إنجازات الكراهية .. دمتم بخير وحب وأمل حبيب بن أوج [email protected]