أول ما تعرفت على نتنياهو من خلال لقاءاته التلفزيونية عندما كان سفيراً ل"إسرائيل" في الولاياتالمتحدةالأمريكية في الثمانينيات، كان - ولا غرابة - شديد التحامل يروج بأن الارهاب صناعة فلسطينية، وأن "إسرائيل" تضحي من أجل حماية الغرب منه. قضى نتنياهو السنوات بعد ذلك في احتراف السياسة أو بتعبير أدق سياسة الكراهية. وحالياً دخل في حرب ضد غزة دامت حتى الآن نحو خمسين يوماً. وبالفعل يبدو أن نتنياهو كان منغمساً في جانب تدمير غزة بآلته العسكرية الهائلة وقوتها النارية، وأن الأمر لن يستغرق أياماً. وقد أثبت الواقع خطأ افتراضاته، ونتيجة لأخطائه تلك بدأت "إسرائيل" تدخل في مجال الخسارة فعلياً؛ فخسارة "إسرائيل" حربها ضد أهل غزة كشعب وضد غزة كأرض لا تكون بأن تسقط تل أبيب، بل تخسر "إسرائيل" بمجرد سقوط ما كانت تسعى لتحقيقه؛ فهي كانت تسعى لحرب قصيرة، وهذا لم يتحقق، وكانت تفترض مستوى متدنيا من المقاومة والردّ، ولكنها تفاجأت بأن القدرة على الرد لدى المقاومة ما برحت حتى بعد انقضاء خمسين يوماً. وبالرغم من أن كراهية نتنياهو للعرب تجعل تفكيره ينحصر في القتل والتدمير، لكنه لم يك يتخيل أن الحرب ستجر اقتصاد "إسرائيل" إلى كارثة. ولست أتحدث هنا عن أن سكان غزة من العرب سيقاطعون البضائع "الاسرائيلية" رغم أن في ذلك إشارة على تنامي الوعي الاقتصادي لدى أهل غزة، وهو جانب لا شك مهم في أي حرب، لكني أتحدث عن أن هذه الحرب طالت الشيكل (العملة "الإسرائيلية") التي تزعزع وضعها أمام الدولار الأمريكي. وبالقطع لا يمكن إسناد التغيرات الأخيرة في سعر الشيكل أمام الدولار فقط للحرب في غزة، ولكن انخفاض الشيكل كان متزامناً مع أيام تلك الحرب، بل إن انخفاضه الأخير حدث عشية إعلان "إسرائيل" معاودة الحرب وقتلها للقادة الثلاثة. ولعل من المناسب بيان أن العملة "الإسرائيلية" كانت في فترة انتعاش قبل الاعتداء الأخير على غزة. ورغم أن من المحللين من يقول إن أغسطس إجمالاً فترة انتعاش للدولار مكنته من تحقيق مكاسب أمام العملات الرئيسية في العالم، وأن خسائر الشيكل أمامه كانت في ذات السياق، لكن الملاحظ في "إسرائيل" تصاعد موجة بيع الشيكل مقابل الدولار وفي اتجاه متسق واحد، ودائماً الأفعال أكثر وقعاً من الأقوال والتحاليل والتبريرات. ومن جانب آخر على صعيد الاقتصاد الكلي وقطاعاته، فإن إطلاق المقاومة في غزة للصواريخ أدى إلى إرباك للاقتصاد "الإسرائيلي" وخاصة في الجنوب؛ حيث أخذت المنشآت تغلق هناك بالمئات، وهذا يعني - بداهة - توقف انتاجها، ومع امتداد أمد الحرب فسيؤثر ذلك سلباً على الناتج المحلي الإجمالي ل"إسرائيل"، لسببين أساسيين: تأثر بعض القطاعات بصورة مباشرة كقطاع السياحة، الذي شهد تقلص عدد الزائرين مؤخراً، أما السبب الأكثر تأثيراً وعلى المدى الطويل فهو الانعكاس على مناخ الاستثمار في "إسرائيل"، إذ تجدر الإشارة الى أن "إسرائيل" تمكنت من استقطاب استثمارات أجنبية بوتائر غير مسبوقة، وكان ذلك واضحاً من إحصاءات تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وهذه منفصلة عن المساعدات التي تتلقاها "إسرائيل" من الولاياتالمتحدةالأمريكية والتي تقدر بنحو 3.9 مليار دولار، وخصوصاً الاستحواذ على شركات تقنية، ويتضح ذلك من بيانات الحساب الجاري التي تبين فوائض عالية خلال الربع الأول من هذا العام (2014)، أما التدفقات الرأسمالية فقد وصلت لمستوى قياسي في الربع الأخير من العام 2013 (7 مليارات دولار) وتراجعت قليلاً في الربع الأول للعام 2014 (5.3 مليار دولار). وكما معروف، فهذه التدفقات هي المعيار الأهم لقياس التغيرات في مناخ الاستثمار، وبالتالي اقبال المستثمرين الأجانب على ضخ رؤوس أموالهم في اقتصاد ما. ويبدو أن الأخطاء الفادحة في فرضيات نتنياهو ستكلف الاقتصاد "الإسرائيلي" كثيراً؛ فهو اقتصاد منكشف للخارج لحد كبير، يعتمد على التصدير وعلى استقطاب الاستثمارات والسياحة من الخارج، وأي حرب ممتدة فيها إطلاق صواريخ وتعطيل لحركة السفر ستعني خسائر هائلة ل"إسرائيل"، أما العنصر الأهم فهو إعادة اكتشاف الوجه الحاقد ل"إسرائيل" وقتلها أطفالنا في غزة، بل للعرب هناك دون تميز أو حتى اهتمام، وتحطيم البيوت والأحياء، وكأن سكانها خارج نطاق حقوق الانسان. هذه الصورة القميئة التي شاهدها العالم بأسره، وإن كانت ليست جديدة لكنها تجدد في أذهان العالم أن "إسرائيل" بلد مولع بقتل العرب دونما اكتراث، وأن قتل وتشريد الأطفال العرب أمر لا يتعب ضمير نتيناهو، بل إن قنص العرب وقتلهم دون أي إجراءات عدلية امرا روتينياً. ماذا يعني هذا، يعني أن الرؤية للاقتصاد الإسرائيلي صعبة، والسبب المباشر هو حرب "إسرائيل" على غزة، والتي كان يتوقع أن تكون نزهة فكانت مكلفة على أكثر من صعيد، فمن المتوقع أن تكون التكلفة الاقتصادية هائلة؛ إذ إن البوادر واضحة أن في حربها الغاشمة على غزة حطمت بيوتاً وفجعت أطفالاً، لكن اقتصادها سيتكبد مليارات نتيجة فقدان الثقة وعزوف المستثمرين والزوار، فقد كشفت الحرب عن وجه "إسرائيل" المسيئة للبشرية والقاتلة للأطفال والهادمة للبيوت فوق رؤوس الأسر الآمنة.