بعد أن أصبحت جغرافية العالم عمودية، ومليئة بالجدران والحواجز الجمركية، واشتعلت الحروب التجارية بين القطبين الأعظم، وجد الجميع أنفسهم مضطرون، من الدول إلى الشركات، للانحياز إلى أحد الجانبين، وتوجيه الصفقات أحياناً وفق مواءمات دبلوماسية، وهذا هو جوهر الصراع الحالي بين أميركا والصين للسيطرة على أسواق جنوب شرق آسيا الواعدة، والتي برزت خلال السنوات الماضية كمركز عالمي لمقدمي الخدمات السحابية، بعد أن قفزت إيرادات البنية التحتية السحابية بالمنطقة إلى 2.1 مليار دولار في عام 2023، بنسبة زيادة 25% عن عام 2022، وقد حصلت سنغافورة على نصف هذه الإيرادات، فيما سجلت الفلبين، وإندونيسيا، وفيتنام، وتايلاند، وإندونيسيا، نمواً سنوياً بنحو 30%، متجاوزة الأسواق الآسيوية والعالمية، التي توسعت بنسبة 25% و29%. بشكل مباشر، تجري الآن معركة حامية الوطيس بين شركات التكنولوجيا الصينيةوالأمريكية على الأرض الآسيوية، حيث تدرك واشنطن وبكين أن سوق الاقتصاد الرقمي المزدهر في جنوب شرق القارة الآسيوية، مرشح للوصول إلى تريليون دولار بحلول عام 2030، وإلى جانب شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة مايكروسوفت، وجوجل، وأمازون، وميتا، تستضيف سنغافورة المقر الإقليمي لشركات التكنولوجيا الصينية الكبرى مثل قسم السحابة في شركتي علي بابا، وتيك توك. باتت سنغافورة مركزا رئيسيا لشركات التكنولوجيا من الشرق والغرب، حيث توفر الدولة، قوة حاسوبية هائلة للاقتصاد الرقمي سريع التوسع، مستفيدة من وفرة المهندسين الموهوبين، وبنية تحتية تكنولوجية حديثة، لذلك، دأبت سنغافورة على الإعلان كل فترة عن مناقصات لبناء مراكز بيانات جديدة، ودائماً ما يكون الاهتمام كبيراً بهذه النوعية من الاستثمارات، التي توصف بانها "معركة ملكية" بين أكبر اقتصادين في العالم، وآخر هذه المناقصات شهدت إقبالاً كبيراً، حيث تقدم لها بعطاءات أكثر من 20 عرضاً دوليا من جميع أنحاء العالم، أبرزهم من شركة الاتصالات الحكومية اليابانية العملاقة "إن تي تي"، وشركات محلية مثل شركة الاتصالات السنغافورية. ولكن، المفاجأة، هي أنه تم منح، العقود المثيرة للجدل، إلى شركتين مدعومتين من الصين وشركتين مدعومتين من الولاياتالمتحدة، وكانت هذه الشركات هي شركة إكوينيكس، المشغل الرئيسي لمراكز البيانات الأمريكية، ومنافستها الصينية " جي دي إس"، وشركة مايكروسوفت، واتحاد يضم شركة بايت دانس الصينية، وهي مالكة تيك توك، والمشغل الأسترالي العملاق لمراكز البيانات "إيرترونك"، بينما لم تفز أي شركة محلية في سنغافورة ممن تقدموا بعطاءات للمشروع، والواقع، أن اختيار الصينيين والأمريكيين للفوز بالمناقصة ليس محض صدفة، لأن لكلا القوتين الأعظم في العالم مصالح وطنية معرضة للخطر، وتنظر واشنطن وبكين إلى التكنولوجيا الرقمية، وخاصة الخدمات السحابية، على أنها أصل استراتيجي، وفي الوقت نفسه، تبدو سنغافورة حريصة على عدم الانحياز لطرف على حساب طرف آخر. بكل تأكيد، هناك عناصر جيوسياسية تتحكم في هذا الأمر، إذ لا ترغب سنغافورة في أن ينظر إليها على أنها تمنح كل القدرات الوطنية للاعبين الغربيين أو الصينيين، لذا فإن وجود تقاسم بين كلا المعسكرين في الصفقات يشير إلى هذه الاستراتيجية، إلا أن الهيئة التنظيمية الرقمية المسؤولة عن المناقصة في سنغافورة، وهي هيئة تطوير وسائل الإعلام المعلوماتية، تصر على أنه "تم اختيار العطاءات في ظل تنافسية كبيرة، والهدف الوحيد هو تعزيز مكانة سنغافورة كمركز إقليمي والمساهمة في تحقيق أهداف اقتصادية أوسع"، لكن، هذه المناقصة تعد إشارة إلى أن دول منطقة جنوب شرق آسيا بدأت تتصالح على إدارة المنافسة بين الولاياتالمتحدةوالصين، حتى أن المسؤولون في جنوب شرق آسيا يصفون الوضع أحيانًا بأنه فأر عالق بين فيلين في سجال. بكل تأكيد، لا يمكن للعالم الرقمي الاستغناء عن مراكز البيانات الضخمة، التي تقوم بتخزين البيانات ومعالجتها، وتعد سنغافورة في القلب منها، فهي المقر الإقليمي لنصف مراكز البيانات في جنوب شرق آسيا، وهي تعمل بمثابة منطقة محايدة لعمالقة التكنولوجيا العالمية، ولكن في نهاية المطاف، فإن المستهلكين هم الذين لهم الدور الأساسي في تحديد الفائزين، فالشركات الأمريكية رائدة في الخدمات السحابية، وبرامج المؤسسات التي تستخدمها الشركات، في المقابل، تتفوق الصين في العديد من فئات التكنولوجيا الرقمية، وهي الجار الأقرب جغرافيا، وبالفعل، هناك انقسام حقيقي بين الشركات والمستهلكين حول الجهة الأجدر بتسليمها سوق جنوب شرق آسيا، حيث تفضل الشركات الولاياتالمتحدة، بينما يفضل المستهلكون الصين. وفقًا لمنصة البيانات الشهيرة Data.ai، فإن "تيك توك" هو التطبيق الأكثر تنزيلًا في تايلاند، وماليزيا، وسنغافورة، وهو أيضاً التطبيق الأكثر إنفاقًا من المستهلكين في خمس دول في جنوب شرق آسيا، بينما يتصدر "الفيسبوك" في الفلبين، فيما يتصدر "جوجل ميت" جميع الدول الستة التي يوجد بها الواتساب، والفيسبوك، وبالنظر إلى حقيقة أن دول جنوب شرق آسيا تعد الفناء الخلفي الجغرافي للصين التي تتمتع بعلاقات ثقافية وسياسية وتجارية واقتصادية قوية مع المنطقة، فإن هذا البعد الجغرافي، يمنح الصين بعض المزايا في هذه السوق الفريدة عالمياً، وهذا لا ينفي أن الشركات الأمريكية تهيمن حالياً على سوق الحوسبة السحابية في المنطقة، حيث تمتلك "مايكروسوفت"، و"أمازون"، حصة سوقية تزيد عن 60% في البنية التحتية للمنطقة، والتي توفر الحوسبة السحابية لشركات أخرى. تستثمر الشركات الصينية بكثافة في المنطقة، وتقدم تخفيضات كبيرة في الأسعار، بينما تكافح الشركات الأمريكية لمجاراتها في الأسعار، ومن الطبيعي أن يتطلع كبار اللاعبين الصينيين مثل "هواوي" و"علي بابا" و "تينسنت"، إلى مراعي أكثر خضرة، مع تباطؤ سوقهم السحابية المحلية، ولهذا، يقدمون حلولاً منخفضة التكلفة وقابلة للتطوير، ويبنون مراكز بيانات للحصول على ميزة تنافسية، حيث تعتبر الخدمات السحابية قطاعاً استراتيجياً في كل العالم، فكل شيء رقمي ومتصل بالشبكة يعتمد على الخدمات السحابية، وهكذا، فإن السحابة هي إطار الاقتصاد الرقمي، ورأس الحربة. في المجمل، هناك ثلاثة معايير أساسية ستحسم نتيجة الصراع بين أميركا والصين للفوز بلقب المزود الرئيسي للخدمات السحابية في جنوب شرق آسيا، وهي جودة الخدمة، والسعر، والموثوقية، وبسبب اختلاف أولويات العملاء، تتصدر الولاياتالمتحدة حالياً من حيث الجودة، بينما تتصدر الصين من حيث السعر، ولكن ليس كثيراً، كما أن العروض الجانبية مهمة أيضاً، وعلى سبيل المثال، تقدم الشركات برامج بناء القدرات التكنولوجية كحوافز، ومن المرجح أن يؤدي نمو الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى إحداث تحول في أعمال الخدمات السحابية، نظرًا لاحتياجاتها الضخمة من البيانات. تنشط شركة علي بابا الصينية في أسواق جنوب شرق آسيا، حيث افتتحت ثلاثة مراكز للبيانات في إندونيسيا منذ عام 2018، كما افتتح العملاق الصيني مركز بيانات في تايلاند، بهدف التوسع، المدفوع بالطلب المتزايد من العملاء العالميين، وتعتبر قلة التكلفة ميزة كبيرة للشركات الصينية، حيث دخلت شركة هواوي، التي تعتبر الحوسبة السحابية صناعة رئيسية على نفس مستوى أشباه الموصلات، دخلت تايلاند، وقدمت هناك عروضاً للأسعار تقل عن المنافسين بنسبة تصل إلى الثلثين، لهذا يدرك الأميركيون أن العملاء المحتملين سيحاولون المساومة على الأسعار من خلال الرجوع إلى نظرائهم الصينيين، وعلى سبيل المثال، في الأسواق الحساسة للأسعار مثل تايلاند، أصبحت "هواوي" ثالث أكبر لاعب في البلاد خلال عامين فقط، بعد "مايكروسوفت" و"أمازون". في الوقت نفسه، باتت إندونيسيا الخط الأمامي لبائعي السحابة الأمريكيةوالصينية، الذين يأملون في الاستفادة من رابع أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، والتي تتكون من أكثر من 17 ألف جزيرة، ففي غضون عقد واحد فقط، أصبحت إندونيسيا مركزًا تكنولوجيًا نابضًا بالحياة، مدفوعًا بوجود العديد من الشركات الناشئة الواعدة، وبعد "علي بابا"، أطلقت "جوجل" أول "منطقة سحابية"، أو مجموعة من مراكز البيانات، في إندونيسيا في عام 2020، وهو أول استثمار من نوعه بين البائعين الأمريكيين، وهذا يعني أن السوق الإندونيسية باتت أولوية قصوى لمنصة جوجل السحابية، حيث يفوق عدد موظفيها في إندونيسيا عدد الموظفين في شركات "جوجل" الأخرى، وتعد إندونيسيا الدولة الوحيدة في جنوب شرق آسيا التي تضم الأعمال السحابية أكبر عدد من الموظفين، وتعد البلاد مسرحاً لمنافسة شديدة بين الشركات الأمريكيةوالصينية، والتي غالبًا ما تتنافس في العطاءات. وفي حين تهيمن الشركات الأمريكية على سوق الخدمات السحابية في جنوب شرق آسيا، تتمتع شركة علي بابا بمكانة قوية في إندونيسيا، بسبب كونها الأولى من بين بائعي الخدمات السحابية العالمية التي تطلق مركز بيانات هناك، مما يعطيها ميزة الريادة، وبالفعل، تقوم العديد من الشركات الناشئة الإندونيسية باستخدام خدمة "علي بابا" لأنها كانت واحدة من الخيارات القليلة المتاحة، ولهذا السبب يسارع الجميع إلى دخول أسواق جديدة بهدف أخذ زمام المبادرة، ولهذا، أعلنت شركة "خدمات أمازون ويب" عن التزام بقيمة 5 مليارات دولار في إندونيسيا على مدار الخمسة عشر عامًا القادمة، بما في ذلك بناء المزيد من مراكز البيانات، بينما دخلت "هواوي" السوق الإندونيسية بمركز بيانات في جاكرتا، وتعهدت باستثمار 300 مليون دولار على مدى خمس سنوات. في الوقت الحالي، يتحول الذكاء الاصطناعي إلى ساحة المعركة الرئيسية في جنوب شرق آسيا، وقد قادت شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة الدفع نحو الذكاء الاصطناعي التوليدي في المنطقة حتى الآن، عبر عملاق التكنولوجيا مايكروسوفت، والتي أخذت زمام المبادرة مبكرًا في السوق، في حين كان اللاعبون الصينيون بعيدًا عن دائرة الضوء إلى حد كبير، لكن، يبدو أنهم يريدون الآن اللحاق بالركب بقوة، وفي هذه المرحلة تحديداً، يوجد أمام الشركات في الآسيان خيارات متعددة، في ظل العروض الواسعة من الولاياتالمتحدةوالصين، وعلينا أن نتوقع، أنه ستكون هناك عملية دمقرطة كبيرة للذكاء الاصطناعي خلال عام 2024، وحتى نهاية العقد الحالي.