«أسمع صوت الإسعاف».. مسؤول إيراني يكشف اللحظات الأولى لحادثة «الهليكوبتر»!    منع واردات 20 شركة للسيارات إلى المملكة لعدم التزامها بمواصفات كفاءة الطاقة    تنظيم مزاولة مهن تقييم أضرار المركبات بمراكز نظامية    تأجيل تطبيق إصدار بطاقة السائق إلى يوليو المقبل    الشيخ محمد بن صالح بن سلطان «حياة مليئة بالوفاء والعطاء تدرس للأجيال»    هاتف HUAWEI Pura 70 Ultra.. نقلة نوعية في التصوير الفوتوغرافي بالهواتف الذكية    القادسية بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للبلياردو والسنوكر    الديوان الملكي: خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية    أمير تبوك يرأس اجتماع «خيرية الملك عبدالعزيز»    «الأحوال المدنية المتنقلة» تقدم خدماتها في 42 موقعاً حول المملكة    جائزة الصالح نور على نور    الجائزة وفرحة الفائزين والفائزات.. عاجزون عن الشكر    مسابقة رمضان تقدم للفائزين هدايا قسائم شرائية    مبادرة «طريق مكة» مرتبطة بالذكاء الاصطناعي    تحقيقات مع فيسبوك وإنستغرام بشأن الأطفال    جهود لفك طلاسم لغة الفيلة    تأملاّت سياسية في المسألة الفلسطينية    أمير القصيم يرعى حفل تكريم الفائزين بمسابقة براعم القرآن الكريم    الملاكم الأوكراني أوسيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع    بختام الجولة ال 32 من دوري روشن.. الهلال يرفض الهزيمة.. والأهلي يضمن نخبة آسيا والسوبر    يوم حزين لهبوط شيخ أندية الأحساء    «الخواجة» نطق.. الموسم المقبل ضبابي    مدرج الأهلي أمر !    دوري روشن.. ما الذي تحقق؟    الانتخابات بين النزاهة والفساد    استعرضا العلاقات السعودية- الأمريكية والمستجدات.. ولي العهد وسوليفان يبحثان صيغة الاتفاقيات الإستراتيجية    165 ألف زائر من بريطانيا للسعودية    خادم الحرمين الشريفين يُجري فحوصات طبية في العيادات الملكية    "إنفاذ" يُشرف على 38 مزادًا لبيع 276 من العقارات والمركبات    نيابة عن سمو ولي العهد.. الفضلي يرأس وفد المملكة في المنتدى العالمي للمياه    انطلاق مؤتمر «مستقبل الطيران» بالرياض    سعود بن مشعل يُشرّف حفل تخريج الدفعة التاسعة من طلاب وطالبات جامعة جدة    تفوق واستحقاق    ثقافة سعودية    كراسي تتناول القهوة    من يملك حقوق الملكية الفكرية ؟!    وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا    الخارجية: المملكة تتابع بقلق بالغ ما تداولته وسائل الإعلام بشأن طائرة الرئيس الإيراني    عبر كوادر سعودية مؤهلة من 8 جهات حكومية.. «طريق مكة».. خدمات بتقنيات حديثة    بكاء الأطلال على باب الأسرة    ارتباط بين مواقع التواصل و«السجائر الإلكترونية»    عن "المؤتمر الدولي" و"قوّة الحماية الأممية"    تشكيل أول لجنة للتطوير العقاري ب "اتحاد الغرف"    مرحباً بقدومكم يا ولي العهد الأمين للشرقية    سقوط طائرة هليكوبتر تقل الرئيس الإيراني ووزير الخارجية    مضر يوقف انتصارات الخليج في ممتاز شباب اليد    الديوان الملكي: خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية    السعودية تطلق منصة فورية لإدارة حركة الإحالات الطبية    انقسام قادة إسرائيل واحتدام الحرب    «حرس الحدود» بجازان يحبط تهريب 180 كيلوغراما من نبات القات    أرامكو السعودية توقع ثلاث مذكرات تفاهم خلال زيارة وزير الطاقة الأمريكي    سفير إندونيسيا لدى المملكة: "مبادرة طريق مكة" نموذج من عناية المملكة بضيوف الرحمن    وزير الصحة الماليزي: نراقب عن كثب وضع جائحة كورونا في سنغافورة    الأرصاد: استمرار فرص هطول الأمطار على بعض المناطق    ولي العهد يستقبل مستشار الأمن القومي الأمريكي    رفضت بيع كليتها لشراء زوجها دراجة.. فطلقها !    تحدي البطاطس الحارة يقتل طفلاً أمريكياً    دعاهم إلى تناول السوائل وفقاً لنصائح الطبيب.. استشاري: على مرض الكلى تجنّب أشعة الشمس في الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع شاعر الزنوجة ومنشد "أحزان افريقيا" . متهماً أدونيس بالشعوبية ومهاجماً قصيدة النثر إلا حين يكتبها الماغوط . الفيتوري : طردني نميري بسبب قصيدة عن عبدالخالق محجوب 2 من 2
نشر في الحياة يوم 26 - 01 - 1998

بعد أن تحدّّث على أصوله وبداياته الشعريّة، يخوض محمد الفيتوري في "تاريخ هذه الأمّة الحافل بالتناقضات والانهيارات"، ويدعو للعودة إلى القيم الاسلاميّة لكيّ ينهض المجتمع العربي من جديد. ويتوقّّف الشاعر في الحلقة الثانية من هذا الحوار، عند علاقته بنظام نميري ونظام البشير، وعند "استعادته" للجنسيّة الليبيّة. كما يتناول مشاكل النشر في العالم العربي، ويهاجم عدداً من معاصريه، متسائلاً بصدد قصيدة النثر: "هل كل تحلل أخلاقي وقيمي يقدم باعتباره تجديداً؟" .
في الحلقة السابقة قدم محمد الفيتوري بانوراما كاملة عن حياته منذ البدايات الأولى. وأكّد البعد الافريقي لتجربته، كما توقّف عند عذابات القارة السمراء التي أعطت صوته بعداً خاصاً فوق خريطة الشعر العربي، وكانت من الملامح المميّزة لقصيدته. وفي هذه الحلقة الثانية والأخيرة، يتحدث عن حياته في بيروت، ويستعرض التنقلات المختلفة التي أدّت به إلى الاستقرار مجدّداً في القاهرة. كما يتناول قضايا النشر، وقصيدة النثر، وغربة الشاعر العربي المعاصر عن قضايا عصره... ويتّهم أدونيس ب "الشعوبيّة"!
عودة إلى قيم الاسلام
أليس المجتمع العربي مناهضاً للتحديث؟ في الحوار الذي أجرته معه "الوسط" اعتبر أدونيس أن "المجتمع العربي قائم على فكر وقيم مناقضة للحداثة ولكل ما هو حديث، لذا يستحيل تحديث المجتمع العربي إذا لم تتهدم البنى التقليدية القديمة"...
- لماذا تحشر أدونيس هنا وكأنه مبشّر المرحلة؟ إنّه صوت بين الأصوات، مثله مثل أي شاعر آخر، فلا تعطوه مثل هذه الأهمية، ولا تصنعوا لنا أصناماً جديدة!
ما يقوله أدونيس ليس بجديد. ورد هذا الكلام منذ بدايات القرن على لسان أحمد لطفي السيد وعلي عبد الرازق وأحمد أمين وأحمد حسن الزيات... فكلّ من هؤلاء سعى من وجهة نظره إلى طرح آفاق تحديث المجتمع العربي. فتاريخ هذه الأمة حافل بالتناقضات والاسقاطات والانهيارات، لكنه مستمر في الحركة مثلما يحدث في تاريخ أي أمة. أما الخمود الذي نعاني منه الآن والذي يتوجّب علينا أن نعالجه، فقد توقف عنده رجال التنوير في مصر والعالم العربي في بداية القرن.
لا أريد أن أطعن في أدونيس فله الحقّ في قول ما يشاء. لكنّنا نعرف المنابع التي ينطلق منها، ولن ندعه يحشرنا في الزاوية. أنا أعتبر أن أدونيس ينطلق من منطلق شعوبي. وفي السياق نفسه تندرج اجتهادات الكاتب الجزائري محمد أركون، رأس هذه اللعبة. فهو يكتب "ألا تحرير لهذه الأمة العربية إلا بتحرير العقل العربي"، عن طريق "تفكيك النص الذي ضغط على هذا العقل وأدى به إلى الجمود". هذا كلام خطير وغير مسؤول إذ لا يجب الطعن في القيم الأساسية للانسان العربي. لقد وصل الترف الفكري والحرية الحقيقية في المجتمع العربي إلى درجة سمحت للأخطل بالوقوف في حضرة الخليفة، ليقول قصيدته الشهيرة التي لا أظنّها تخلو من الجرأة. أين المشكلة إذاً. أنا ضدّ المزايدات الأيديولوجيّة، وضد هذه المواقف التي يحاول من خلالها بعض "الشعوبيين" الجدد الطعن في القيم الجوهرية في حضارتنا العربيّة.
كلامك خطير جدّّّاً، بدءاً بتهمة "الشعوبيّة" والخلفيّات التي تنضح بها. فهل تعتبر أن من يدعو اليوم إلى الحداثة، يسعى حكماً إلى هدم قيم المجتمع العربي وقيم الإسلام؟
- أسارع فأطمئنك إلى أنّه ليست هناك "خلفيّات" لموقفي، فأنا أعتبر أننا أمة عربية واحدة، ولا ينبغي أن تفرّقنا المذاهب والديانات. لكن لنتناول المسألة من زاوية أخرى. الصراع في تركيا يدور اليوم حول هذه النقطة بالتحديد. وتركيا علمانية كما هو معروف منذ الثلاثينات، عندما سعى اتاتورك إلى انقاذ بلاده من حالة التخلف، فحوّلها إلى دولة في إطار النموذج الأوروبي. لكن على الرغم من مرور السنوات بقي الدين معششاً في أرواح الناس حتى هذه اللحظة. كما ظلّ الدين معشّشاً في أوروبا الشرقيّة 70 سنة تحت كابوس الحكم الشيوعي. وجاء نظام في تركيا يحمل لواء الاسلام، وهو لا يريد أن يعود إلى الاسلام بمعناه السلطاني القديم. هذا ليس في ذهن أربكان وحزبه الرفاه. لكنه يرى أن المجتمع التركي في غليانه وظروف نموه الجديد، وفي ظل صدام القوى الكبرى، يبحث عن حقيقته وجوهره.
لن تقوم للمجتمع العربي قائمة، إلا بالعودة إلى الأسس الحضاريّة التي انطلق منها. فالاسلام حارب التخلف والجهل والعبودية، وكان أساس امبراطوريّة زرعت راياتها في كل بقاع الارض. لا أصل إلى حد التخوين ولا ألقي بالاتهامات جزافاً، ولكن بعض الأدباء والمفكّرين يرسخ وجوده على قاعدة "خالف تعرف"، وبعضهم الآخر آمن بفكرة ما فتبناها ولم تعنِه كثيراً ردود الفعل المضادة التي قد تترتب عليها. لا أقول ب "المؤامرة"، ليست هناك مؤامرة. حتى الذين انشأوا تحالف كوبنهاغن ليسوا متآمرين، ولكنهم خالفوا اجماع الأمة.
مواطن في جمهورية الفاكهاني
لماذا خرجت من السودان، كما خرج الطيب صالح وآخرون؟ هل ضاق السودان، وربّما العالم العربي كله، بمبدعيه؟
- المبدع بطبيعته قلق، لا تستوعبه أرض أو مرحلة أو فكرة. ليس السودان بطارد للمبدعين، ولا لبنان أو سواه. فالقاهرة استقبلت عشرات اللبنانيين في نهاية القرن الماضي ومطلع هذا القرن من رواد الصحافة والمسرح والفن. ولبنان استقبل في الخمسينات والستينات عشرات الأدباء والمفكرين والفنانين العرب الهاربين من بلدانهم، ليبتكروا حريّتهم في بلد صغير لا تتجاوز مساحته 11 ألف كيلومتر. لكنّ الفنان عموماً لا يستطيع مكان أن يستوعبه إلا ذاته. إنه القلق الذي يتولد مع حالة الخلق والابداع.
هل القلق دفعك إلى الخروج من السودان؟
- رئيس السودان الأسبق جعفر نميري، وهو يقيم معنا هنا في القاهرة حالياً، أسقط عني الجنسية. فعل ذلك بعد أن كتبت قصيدة بعنوان "قلبي على وطني"، وهي مهداة إلى ضحاياه. وأعتقد أن سياسته كانت بداية للمآسي التي شهدتها القارة الافريقية فيما بعد. قتل نميري كلاً من عبد الخالق المحجوب وفاروق حمد الله وبابكر النور والشفيع أحمد الشيخ، علق المشانق وصبغ السودان بالدم، ليستمر حكمه ويصبح إماماً للمسلمين كما زين له الدكتور حسن الترابي. لم يحتمل نميري أنّني قلت في القصيدة لعبد الخالق محجوب وهو يصعد المشنقة:
"لماذا يظن الطغاة الصغار؟
وتشحب ألوانهم
أن موت المناضل موت القضية
أعلم سرّ احتكام الطغاة إلى البندقية
لا خائفاً إن صوتي مشنقة للطغاة جميعاً...
.....
قتلوني وأنكرني قاتلي
وهو يلتف بردان في كفني
وأنا من؟ سوى رجل واقف خارج الزمن...
كلما زيفوا بطلاً قلت: "قلبي على و طني"".
وبعد إسقاط الجنسية السودانية عني، ذهبت إلى بيروت حيث عشت، وعملت في الصحافة فترة. كنت أحمل جواز سفر ملغىً، ولكن لبنان في ذلك الوقت كان يسمح بإقامة أمثالي. كانت هناك جمهورية الفاكهاني، كما يقولون، وكان أبو عمار سيد بيروت الغربية. كنا كثيرين في مثل هذه الحالة أيّامها، نحتشد في مساحة ضيقة تمتدّ من منطقة الحمراء إلى الفاكهاني مروراً بالجامعة الاميركية. كان هذا الحيّز الضيّق يزدحم بالكتاب والأدباء والمفكرين والمشردين من مختلف بقاع وأنحاء العالم، إلى أن أتيح لبعضنا العودة إلى وطنه، وأمعن آخرون في الغربة فذهبوا إلى أوروبا.
والجنسية الليبية متى حصلت عليها؟
- رد لي معمر القذافي الجنسية الليبية سنة 1974، فاعتبرتها مبادرة من رجل يعرف قيمة الفكر والانسان وحقه في الحياة الكريمة. رد لي القذافي جنسيتي وجنسية آبائي وأجدادي، فأنا أنتمي إلى إحدى أكبر القبائل الليبية.
لا أملك شهادة ميلاد!
أين ولدت بالضبط؟
- ولدت في منطقة محاذية بين تشاد والسودان، وهي منطقة سائحة ومائعة مثل المناطق المحاذية ما بين مصر وليبيا. وتوجد دائماً على الحدود قبائل متحركة، لا تستطيع أن تنسبها بشكل جدي إلى أي موقع. وفي هذه المنطقة لم تكن لي شهادة ميلاد. وعندما جئت إلى الاسكندرية، والتحقت بأحد المعاهد الأزهرية سُنِّنْتُ وشهادة التَّسْنين مجرد إفتراض. نسبت إلى سنة 1930 مرة وإلى سنة 1931 مرة ثانية. وعندما التحقت بالأزهر في القاهرة، سُنِّنْتُ مرة ثالثة باعتباري من مواليد 1936. وجواز السفر الديبلوماسي الليبي الذي أحمله الآن يرد فيه أنّني من مواليد 1936. هذه فسحة من السنوات تعطيني قدراً أكبر من الرحابة والفرح. وعشت في مصر ولم أسأل يوماً عن جنسية. وسافرت إلى السودان لحضور احتفالات الاستقلال، فلم استخدم جواز سفر. ثم بقيت هناك وحملت الجنسية السودانية. أنا أنتمي إلى هذه الأرض العربية، وبإمكاني الآن الحصول على الجنسية المصرية بحكم نشأتي وحياتي وانتماءاتي.
هل تمكن المقارنة بين النظام الذي اسقط عنك الجنسية والنظام السوداني الحالي الذي منحك وساماً رفيعاً؟
- لست شخصيّاً ضدّ النظام الحالي ولا معه، فأنا متفرج في هذا العصر. لكن ربما كانت الصبغة التي أعطاها الترابي للنظام الحاكم في السودان، وراء تلك الرؤية الأحاديّة التي حشر فيها، فتسبّبت في عزلته، وجعلته مرفوضاً على الصعيد المصري والعربي والعالمي. وفي ظل مناخ العزلة هذا، يصعب على المفكر والأديب والمبدع الحر أن يعيش كما يطيب له، بل هو مطالب حكماً باجترار السائد. وإذا كان مصرّاً على قول رأيه والخروج من السرب، فما عليه سوى أن يغادر.
وهذا الوضع يفسّر ما حدث للطيب صالح من منع روايته "موسم الهجرة...". والشيء نفسه يحدث مع كتاب وشعراء آخرين منعت أعمالهم في السودان، لا لكونهم معارضين بل لمجرّد خروج ابداعهم وفكرهم عن النسق السائد. النظم الشمولية تريد دائماً من الفنان أن يكون تابعاً وبوقاً.
أما "الوسام الذهبي للعلم والآداب والفنون" الذي أشرت إليه في سؤالك، فمنحني إيّاه الفريق عمر حسن البشير في 22 شباط فبراير 1990. أي أن ثورة الانقاذ الوطني كانت في بداية الطريق، وعلاقاتها بمصر وببقية الجيران كانت ما تزال وثيقة.
يتاجرون باسمي!
من هم قراؤك اليوم؟ هل عندك فكرة عنهم؟
- مشكلة التوزيع في العالم العربي، أنّه عاجز عن تقديم الأرقام والمعطيات بشكل طبيعي. كما أن النشر ليس عادلاً، ولا يقوم على أسس منطقيّة وعقلانيّة بامكانها تزويد الكاتب بمؤشرات فعليّة. فالناشر لا يهمه سوى الربح، ولا يهمّه بالتالي سوى المتاجرة باسمك! وقّعت عقوداً كثيرة مع ناشرين مصريين ولبنانيين، لكنّها لم تنفذ بحذافيرها، ولم يكن لها مردود مادي أو أدبي بالنسبة إلي.
لا أعتبر كل الناشرين لصوصاً. لكن "دار العودة" في لبنان مثلاً تطبع أعمالي منذ سنة 1977، وحتّى الآن لم اتقاضَ مليماً واحداً. وفي المقابل أشيد ب "الهيئة المصرية العامة للكتاب" التي يشرف عليها الأديب سمير سرحان. فهذه الدار أصدرت لي ثلاثة أعمال جديدة، وتقوم حالياً بطبع أعمالي الكاملة، وتعاملني باحترام لم أره من ناشر طوال حياتي. نشرتُ في "دار الآداب" و"دار العودة" و"منشورات نزار قباني" في لبنان، كما نشرت لدى "دار الشروق" مصر... وترجمت لي أعمال في ايطاليا والمانيا وفرنسا، فلم ألقَ معاملة مادية ومعنويّة كالتي ألقاها من "هيئة الكتاب".
وبغضّ النظر عن النشر والتوزيع، اتصور أن صوتي الغريب وسط جوقة الشعراء العرب المعاصرين قادر على الوصول إلى الأذن العربية الصحيحة، وإلى القلب المسكون برغبة المعرفة وشهوة الحياة نفسها. في أي بلد عربي أذهب إليه، أجد قرائي واصدقائي والذين يقدرون كلماتي ويتوقون لسماعها، على الرغم من أنّني لا أملك جوقة من المطبّلين والمروّجين، ولا يقف ورائي جهاز إعلام مثل كثيرين من الشعراء المعاصرين. وربما كانت مواقفي وطبيعة حياتي وشخصيتي وأخلاقي تحول بيني وبين إقامة علاقات صحيحة مع كثيرين، فيقولون عنّي "متكبر" أو "مغرور"... لكن هذه الأشياء لا تعنيني. يهمّني فقط أن أكتب، ولا أتأثّر أبداً إذا لم تجد قصيدتي الصدى الذي تستحقّه في اذن من لا يفهمها. لا يعنيني قط أن يقال عني إني شاعر ذو قيمة ما، فأنا أثق بمعيار واحد وحكم واحد: إنّه غربال الزمن.
هل تعيش القصيدة معك دائماً، على الرغم من مهامك الديبلوماسيّة؟ هل هناك في جيوبك قصائد؟
- تجد بين أوراقي بدايات كثيرة لقصائد تخطر في بالي فأسجلها. أسجل بداية أو مطلعاً، وبعد وقت إما ألغيها لأنها لا تستحق الحياة، أو تجذبني فأتوقّف عندها مليّاً وأعايشها. في بداياتي كنت أنتظر الشعر والالهام، وأبحث عن بواعث تحرك فيّ الوحي. أما الآن، وأنا في هذا العمر، وبعد هذه التجربة، أحس أنه يمكنني استقطاب الإلهام. يكفي أن أخضع نفسي لطقس معين، أن أبتعد عن الضجيج والناس وأحلم. هكذا يغرق نصفي في اللاشعور ويبقى النصف الآخر مع الناس لإدارة حياتي بشكلها الطبيعي.
صوت صارخ في البريّة
كيف تحدّد موقعك على الخريطة الشعرية الحديثة؟
- أنا من الجيل الثاني، الجيل الذي أعقب الروّاد. عندما كتبت نازك الملائكة قصيدتها "الكوليرا" سنة 1947، كنت في بداية المرحلة الثانوية. لكني كنت أكتب الشعر وأنشره. نازك وجيلها، مثل السياب وكاظم حيدري وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي، كتبوا القصيدة الحديثة. إلا أن الشاعر المصري كمال عبد الحليم في ديوانه "إصرار" تفوق على كل هؤلاء، إذ حمّل قصيدته مضموناً ثورياً وقيماً إبداعية إنسانية وموقفاً نقدياً مفعماً بالمشاعر القومية. لكمال عبد الحليم دور مهم في حركة القصيدة الحديثة، ولكن شعراء من أصحاب النقيق يأتون ويتجاهلونه. وكذلك قام عبد الرحمن الشرقاوي بدور مهم في مسيرة هذه القصيدة.
أنا رفضت شعر نازك في البداية، لكنني مع مرور الزمن شعرت بضرورة إيقاع جديد. وهذا لا يلغي في نظري الايقاع القديم. فالايقاع الحديث في الشعر إضافة وليس إلغاء لما سبقه. يتصوّر كثيرون أن القصيدة الحديثة بدأت مع نازك الملائكة ورفاقها، في حين أن الشاعر المصري حسين عفيف كتب القصيدة النثرية في الثلاثينات، وكذلك فعل الشاعر اللبناني بشر فارس الذي كان يقيم في القاهرة وله قصيدة مشهورة من تلك المرحلة بعنوان "زيارة".
أما أنا فأنتمي إلى جيل صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمد عفيفي مطر وابراهيم عيسى وعبد العليم القباني في مصر، وتاج السر الحسن ومحيي الدين فارس وجيلي عبد الرحمن في السودان، وممدوح عدوان في سورية... لكنّني تفرّدت عن كلّ هؤلاء بالتعبير عن قضايا الانسان الافريقي. كما أن لغتي جاءت مختلفة، وقاموسي لم يكن يشبه قاموس الشعراء الآخرين. إنّّي واحد آخر غريب، نسيج وحده اذا صح التعبير، صوت صارخ في البرية، وهذا يعطي صفة وتفرداً ووحدانية. وأذكر في هذا السياق نزار قباني، فهو متميز بلغة جميلة وإيقاعات أنيقة.
أما بالنسبة إلى الحداثة، فقد كانت دارت معركة حادة بين شعراء القصيدة الحديثة وعباس محمود العقاد. وأنا والجيل الذي سبقني انتصرنا للجديد ليس لمجرد الجديد، بل لأنّ الظروف والتحديات بعد الحرب العالمية الثانية كانت تتطلب النهوض والابتكار والتجاوز. كان لا بدّ للانسان العربي أن يتجدّد ويعي القضايا المطروحة، من مواجهة الاستعمار ومقاومة التخلف إلى البحث عن قيم جديدة. وكل ذلك كان يتطلب لغة جديدة وإيقاعاً جديداً، لكنّ مشروعنا لم يلغِ إطلاقاً القيمة الجوهرية، التي سوف تبقى، للقصيدة القديمة.
مع قصيدة النثر ولكن...
كيف يمكن لمن خاض بالأمس أشرس المعارك باسم الحداثة، أن يقف اليوم بالشراسة نفسها ضدّ قصيدة النثر؟ تلك القصيدة التي أكّد إحسان عباس في حوار نشرته "الوسط"، أنها مستقبل الشعر العربي، لأنّها تكسر الملل، كما فعلت ذات يوم قصيدة التفعيلة بالنسبة إلى الشعر الذي كان سائداً قبلها...
- أشيد بالدكتور إحسان عباس فهو أديب وناقد له قيمته العلمية والفكرية. ومع كلّ الاحترام لاجتهاداته، لا أعتقد أنّه منبئ بالغد، ورأيه قد لا يكون مطابقاً لما سوف يحدث. كثيرون مثله يعتبرون أن المستقبل لقصيدة النثر. ورأيي أن قصيدة النثر إضافة، ولكن يجب أولاً أن تكون قصيدة. ألا تلاحظ الاسفاف في ما يكتب وينشر اليوم؟ أي شاعر هذا الذي ليست لديه تجربة ولغة، فيكتفي بأحزان شخصية صغيرة جداً، ورؤى باهتة ومثيرة للشفقة أحياناً؟
أعترف بقصيدة النثر عندما يكتبها شاعر مثل محمد الماغوط. وأتحدّى رافعي لواء تلك القصيدة أن يكتبوا مثله، أو مثل أنسي الحاج وألبير أديب وجبران خليل خبران وناظم حكمت... أما أصحاب قصيدة النثر فيتكلمون عن واقع شخصي مَرضيّ، مجرّد من أي بعد ميتافيزيقي أو اجتماعي، وأغلبهم لا يقول شيئاً. ما أقرأه لهؤلاء، نادراً ما أقع فيه على الشعر. بوسع أي كان أن يكتب مثل هذا "الشعر". والسؤال: ماذا تقدم لي قصيدة النثر؟ أين الشعراء الذين يقدّمون تجربتهم وروحهم المضيئة من خلال اللغة والكلمات؟ معظم من يعتبرون أنفسهم شعراء "قصيدة النثر" لا يقدّمون سوى الهذيان! قصائدهم كلام جرائد، يكتبون أمراضهم الشخصية وضعفهم وإحساسهم بأنهم خارج نطاق العصر. هل كل تحلل أخلاقي وقيمي يقدم باعتباره تجديداً؟
ما مصير الشعر؟ أما زال هناك قرّاء؟
- الشعر ملازم للإنسان، وهو وثيق الصلة بروحه ووجدانه وتصوراته وأحلامه وخياله، وسيبقى ما بقي الانسان. لم ينتهِ دور الشعر، ولم تحل الرواية محله. فهذا كلام مثير ولكنه لا ينطبق على الواقع. شعراء قصيدة النثر يقولون إن الجمهور مات، وهذا غير صحيح، شاعر القصيدة النثرية هو الذي مات. والجمهور لا يستطيع أن يعانق ميتاً، إنما يدفنه او يبكي عليه.
أذكر أنني شاركت قبل فترة، في مهرجان شعري استضافته جامعة القاهرة، مع فاروق جويدة ومحمد ابراهيم ابو سنة واحمد سويلم وابراهيم عيسى والدكتور كمال نشأت ومحمد التهامي، وقدّم للأمسية وزير الثقافة المصري السابق الدكتور أحمد هيكل. يومها احتشد الجمهور بالآلاف للتجاوب مع الشعر، والاستماع إلى القصائد وعناق أصحابها. ما الذي أتى بكل هؤلاء إلى المهرجان؟ ما الذي أبقاهم ما يزيد على أربع ساعات؟ الشعر حيّ أكثر من أي وقت مضى، لكن حضوره يتطلب حضور الشاعر. ولو أن قصيدة النثر حقيقية لاستطاعت أن تخلق جمهورها.
اعطوني شعراً، هذا كلّ ما أطلب. لا تقتلوا الشعر ثم تسارعوا إلى جنازته. القصيدة النثرية لا يمكن أن تبقى شعاراً فقط. انفخوا فيها الروح، بدلاً من أن تعطوني هيكلاً عظمياً وتقولون هذا إنسان حي.
اختلال التوازن
في مقدمة ديوانك الأخير "أغصان الليل عليك" كتبت أن الشاعر العربي حالياً يتقوقع ويتعالى وينفصل...
- نحن ورثة تاريخ صعب ومعقد ويكاد يكون ملعوناً. الشاعر العربي، منذ مطلع القرن العشرين، خاضع لقوّتين تتجاذبانه: الارث التاريخي وتحديات العصر. والسؤال: كيف فقدنا التوازن بين هاتين القوتين؟ البعض غرق في الرمل والبعض قاوم وخرج ملطخاً بتناقضات العصر. وقليلون هم الذين استطاعوا أن يبرزوا، ويبتكروا كيانهم بعيداً عن هذه المؤثرات.
إن اختلال التوازن هو الذي أدّى بالشاعر العربي وبقرائه إلى هذا الشكل الهلامي الذي هو فيه. نحن كشعراء سقطنا في الهوّة، استسلمنا للفراغ، فمُسخت فينا أشياء كثيرة. ووجدنا أنفسنا داخل الحلقة المفرغة التي نعيش فيها. لسنا قادرين على ابتكار المستقبل، ولسنا راضين بما نحن فيه... لسنا مشدودين إلى الماضي، ولسنا قادرين على الافلات من قيوده. لذلك قلت إن الشاعر - أو هذا النمط من الشعراء - يتقوقع ويتعالى وينفصل. في الجيل الذي أنتمي إليه كثيرون تقوقعوا وتعالوا على الناس، وانفصالهم يعني موتهم. وهؤلاء تورموا بذواتهم وأصيبوا بحالة سرطانيّة، وماتوا في نظر الناس وتحولوا إلى أشباح، في حين ما زال يخيّل إليهم أنهم شعراء كبار!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.