معرض الكيف بجازان يسدل الستار على فعالياته بعد حضور فاق التوقعات واهتمام محلي ودولي    تغطية اكتتاب أرامكو للمؤسسات ب +45 مليار ريال    زلزال بقوة 5,9 درجات يضرب وسط اليابان    في بطولة غرب آسيا لألعاب القوى بالبصرة .. 14 ميدالية للمنتخب السعودي    المنتخب الوطني يواصل تحضيراته لمواجهة باكستان    الحجاج يشيدون بخدمات « حالة عمار»    الصدارة والتميز    أجمل من عطر منشم..!    39.7 مليون برميل مستويات الإنتاج.. ( أوبك+) تمدد تخفيضات الإنتاج لنهاية 2025    9.4 تريليونات ريال ثروة معدنية.. السعودية تقود تأمين مستقبل المعادن    أوبك+ تقرر تمديد تخفيضات الإنتاج الحالية حتى نهاية 2025    ..و يرعى حفل تخريج متدربي ومتدربات الكليات التقنية    ماذا نعرف عن الصين؟!    الاحتلال يدمر 50 ألف وحدة سكنية شمال غزة    وصول الطائرة السعودية ال 51 لإغاثة الفلسطينيين    مزايا جديدة لواجهة «ثريدز»    ملاجئ «الأونروا» فارغة    نقل تحيات القيادة وأشاد بالجهود الأمنية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يدشن مشروعات «الداخلية» في عسير    حجاج الأردن وفلسطين : سعدنا بالخدمات المميزة    الأولمبي السعودي يستهل مشواره بمواجهة كوريا الجنوبية    الأزرق يليق بك يا بونو    الاتحاد بطل.. أخذوه وبعثروه    المملكة تستضيف بطولة العالم للراليات تحت مسمى "رالي السعودية 2025"    الكعبي.. الهداف وأفضل لاعب في" كونفرنس ليغ"    رونالدو يغري ناتشو وكاسيميرو بالانضمام للنصر    وزير العدل: دعم ولي العهد اللامحدود يضع على أفراد العدالة مسؤولية كبيرة    حجب النتائج بين ضرر المدارس وحماس الأهالي    بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    سائقو الدبَّابات المخصّصة لنقل الأطعمة    بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج دون تصريح    هذا ما نحن عليه    هنأ رئيس مؤسسة الري.. أمير الشرقية يدشن كلية البترجي الطبية    إطلاق اسم الأمير بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق مدينة الرياض    جامعة نورة تنظم 20 حفل تخريج لطالبات كلياتها ومعاهدها    توبة حَجاج العجمي !    "طريق مكة".. تواصل تسهيل دخول الحجاج إلى المملكة    "فعيل" يفتي الحجاج ب30 لغة في ميقات المدينة    "الأمر بالمعروف" تدشن المركز الميداني التوعوي بمكتبة مكة    تقرير يكشف.. ملابس وإكسسوارات «شي إن» سامة ومسرطنة    أمير نجران يشيد بالتطور الصحي    نمشي معاك    رائحة تقضي على النمل الأبيض    أمير منطقة تبوك يعتمد الفائزين بجائزة سموه للمزرعة النموذجية    أمير الشرقية يستقبل رئيس مؤسسة الري    11 مليون مشاهدة و40 جهة شريكة لمبادرة أوزن حياتك    الشورى: مراجعة شروط الضمان الاجتماعي المطور لصالح الأيتام وبعض الأسر    الهلال الاحمر بمنطقة الباحة يشارك في التجمع الصحي لمكافحة التدخين    إدانة مزور شيكات ب34 مليون ريال منسوبة لجمعية خيرية    مسبار صيني يهبط على القمر    وصول الطائرة ال51 لإغاثة غزة    «إخفاء صدام حسين» يظهر في بجدة    المملكة تحقق أول ميدالية فضية ب"2024 APIO"    «أطلق حواسك».. في رحلة مع اللوحة    «طريق مكة».. تقنيات إجرائية لراحة الحجيج    فيصل بن مشعل يرعى حفل تكريم معالي رئيس جامعة القصيم السابق    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    إرهاب «الترند» من الدين إلى الثقافة    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأزهر الشريف ورسالتنا إلى العالم الغربي
نشر في الحياة يوم 03 - 06 - 2017

مقال كتبه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين يوم الأحد في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 1955 يهاجم فيه الأزهريين الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض آخر، ويُنادي مُهدِّداً بالخطوة الثانية في دمج نظام الأزهر بنظام التعليم.
كان ذلك انفعالاً ساقه طه حسين ضد أحد الأزهريين الذي كتب مقالاً ضد كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، الذي دعا فيه إلى انتهاج الأصول اليونانيَّة في التعليم الثانوي، كما جرى في فرنسا، ثمَّ اتباع الغرب شبراً بشبر في كلِّ ما تقتضي به الثقافة الغربيَّة الجارية في التربية والتعليم، نظراً إلى فرادة مصر بتاريخها الفرعوني، وإسهامها في التراث اليوناني القديم مع مدرسة الإسكندرية، ولأنها ذات تراث يلتقي مع نهضة الغرب. واعتُبر ذلك على ما يبدو إلغاء للأزهر وثقافته الإسلاميَّة، فشرعت أقلام تدافع عن حياض الثقافة التراثيَّة وكان ردَّ الفعل هذا يعبِّر في لهجته عن روح تلك المرحلة من الخمسينات التي طرحت مشكلةً في تعالٍ تبشيري، كان بدأ منذ العشرينات من القرن الماضي، حول امتياز الثقافة الغربية واتباع الحركة الاستشرافية الغربية كمُعرِّف بالتراث الإسلامي ومُؤثر في تقويمه تقويماً كان سمة العصر.
دافع عميد الأدب العربي في مقاله هذا عن موقفه متَّهِماً منتقديه بعدم قراءة الكتاب، وقد وقفوا على عبارات فيه، فكان مثلهم كمن يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. وهكذا شرع يطرح فكرته حول الخطَّة الثانية في تطوير الأزهر، وهي وحدة التكوين التربوي في البلاد ووحدة الثقافة التي وجدت طريقها في ما بعد اعتباراً من عام 1961، أي في السنة التالية لتخرجي في قسم تخصُّص القضاء الشرعي عام 1960، بعد نيلي إجازة كلية الشريعة عام 1958.
إنَّ أهميَّة هذا المقال وظروف كتابته عام 1955 أنه يدلف بصورةٍ غير مباشرةٍ إلى معالم العنوان الأساسي لندوتنا اليوم.
يقول طه حسين: «إنَّ مهمَّة الأزهر في تكوين الثقافة أعظم خطراً وأبعد أثراً في حياة مصر خاصَّةً، وفي حياة العالم الإسلامي عامَّةً، ممَّا يظنُّ الأزهريون أنفسهم، لأسباب مختلفة، منها أنَّ الأزهر أكثر معاهد التعليم في مصر وفي الشرق الإسلامي حظّاً من الطلاب، فيجب أن تظفر فيه هذه الكثرة الضخمة من الشباب المصريين والمسلمين بثقافةٍ ليست أقل من الثقافة التي يظفر بها الشباب في الجامعة وفي مدارس التعليم العام، لا من جهة الكم ولكن من جهة الكيف كما يُقال، ومنها أنَّ الأزهر معهد الدِّراسات الدِّينية الإسلاميَّة، وهو من هذه الجهة شديد الاتصال، ويجب أن يكون شديد الاتصال، بطبقات الشعب على اختلافها وتباينها، وهو إذن من أهم المصادر للثقافة في مصر والشرق، ويجب أن تكون الثقافة التي تصدر عنه وتتغلغل في طبقات الشعب كلها ثقافةً راقيةً ممتازةً ملائمةً لحياة الشعب وحاجاته، لا مناقضةً لهذه الحاجات وتلك الحياة، ومنها أنَّ الأزهر مظهرٌ من مظاهر المجد المصري القديم، حمل لواء المعرفة في مصر وفي الشرق الإسلامي قروناً متَّصلة، فيجب أن يكون حاضره ومستقبله ملائمَين لماضيه المجيد، كما كان عنواناً للمجد المصري القديم.
وسبيل ذلك أن تكون الثقافة التي تصدرُ عنه والمعرفة التي تُطلَب فيه ملائمَتين أشدَّ الملاءمة لحاجات الناس وآمالهم في هذا العصر الحديث.
(...) فلا بدَّ أن يجاري الأزهر هذا التطوُّر ليكون اتصاله بالأجيال الناشئة والأجيال المقبلة أقوى وأجدى من اتصاله بالأجيال الماضية والأجيال الحاضرة، ومنها أنَّ الأزهر مشرق النور الديني للبلاد الإسلامية كلِّها، وأخصُّ ما يمتاز به الإسلام أنه دين الحرية والعلم والمعرفة، كما تفهمها الأجيال على اختلافها لا كما فهمها جيلٌ بعينه، وكما تحقِّقها العصور على اختلافها لا كما حقَّقها عصرٌ بعينه».
خطة طريق
هذه المقدِّمة من تجربة أزهريِّ النصف الأول من القرن الماضي تطرح خلفية تاريخية لمسيرة تطورات في تاريخ معايير الثقافة الوطنية في مصر والعالم العربي وتأثير الغرب والحداثه فيها، وهي بذلك تُمثل الوجه الآخر لمسوغات الولوج إلى موضوع الندوة.
ومع ذلك فالتأمل في مقال طه حسين يمنح موضوعنا ما يمكن أن نسمِّيَه «خطَّة طريق» في بنية دور الأزهر كحارس للثقافة الإسلامية ومرجع في بناء معاييرها في نطاق مستقبل خطابنا إلى الغرب والعالم، وهي تبدو في مهمتين مترابطتين من الوجهة الفنية العملية:
المهمة الأولى: ترتبط بتكوين البنية التحتية القادرة على إنتاج ونقد ومتابعة مسارات العصر، وبالخصوص مسار الحضارة الغربية- الأميركية. المهمة الثانية: توظيف كفاءة البنية التحتية في تفعيل الأداء الأزهري في العالم لولوج الحركة الثقافية في نطاقها الداخلي والخارجي، بغية ضبط معايير الثقافة والفكر الإسلامي في نطاق العالم الغربي المسيطر.
لذلك سوف نتحدَّث أولاً عن مُكوِّنات البنية التحتية في تحقيق مشروع الندوة ثم عن البنية الفوقية والوسطية:
أولاً – مُكوِّنات البنية التحتية
1) وقفة في التَّاريخ: قبل أن ندخل في أساس موضوعنا، لا بدَّ من أن نقف قليلاً حول أساس الجدل الذي عبَّر عنه مقال طه حسين في فضاء تلك الحقبة من الخمسينات في نظرة تقويمية وتاريخية.
كان طه حسين يُؤكِّد في دعوته وحدة التعليم في مصر وفق النموذج الغربي بكل معاييره على وجه الخصوص. والسؤال الذي طُرِحَ من منتقديه لم يكن نقداً للفكرة نفسها بقدر ما كان مرتبطاً بالجواب على هذا السؤال: هل يعني ذلك أن يصبح الأزهر الشريف هو جامعة القاهرة أم أن تصبح جامعة القاهرة هي الأزهر الشريف من منطلقاته التراثية؟
والواقع أنَّ قضيَّة وحدة التربية والتعليم مع تطور الاتصال بالعالم الغربي بدأت منذ العشرينات، إذ مثل إنشاء الكليات المتخصِّصة في الأزهر الشريف بعضاً من التجاوب مع هذا المناخ.
بيد أنَّ تباين الرؤية في تحديد رسالة الثقافة في الداخل والخارج أوجد مؤسَّساتٍ موازيةٍ لرسالة الأزهر التاريخية كدار العلوم، ومؤسَّسة القضاء الشرعي التي لمع فيها الفقيه الشيخ أحمد إبراهيم وتلاميذه الأساتذة الأعلام محمد أبو زهرة وعبد الوهَّاب خلاف والشيخ علي الخفيف الذين أسَّسوا العلوم الشرعية في جامعة القاهرة. إلا أنه ظهر لاحقاً أنَّ ذلك التباين في المدى الثقافي وكذلك السياسي أحياناً، أدَّى إلى حصادٍ تراكمي أبطأ المسيرة في كلا الموقعين: الأزهر الشريف وجامعة القاهرة.
ما تقدَّم يُؤكِّد واقعاً أساسياً في قضية الثقافة والاقتباس من الغرب، يتمثل بافتقاد تلاميذ الحضارة الغربية من جهة، وشيوخ الأزهر من جهة أخرى، نقطة التقاطع التي كان من شأنها أن تؤدِّي إلى نوعٍ من التطوير التكاملي بين الاتجاهين كما يقول المفكر مالك بن نبي في دراسته الشهيرة «وجهة العالم الإسلامي – الجزء الأول. Vocation de L`islame».
عاد تلاميذ الحضارة الغربية منذ الرُوَّاد الأُوَل ليؤسِّسوا جامعة القاهرة التي بُنِيَت بأموالٍ وُقِفَت من روح الشعب المصري المتديِّن والمؤمن بالثواب الأخروي. لكنَّ الرُوَّاد واجهوا هذه الروح بأرستقراطية المصطلحات النابعة من تفوُّق الحضارة الغربية والاندماج العميق معها، لذا كانت المخاوف التي وُجِّهت من الأزهر بين المتنوِّرين المدركين لمؤثرات الثقافة الغربية، أمثال الدكتور محمد البهي والكاتب المعروف محمَّد عمارة وسواهما تتصل بالسؤال عن وحدة المصطلحات النهائية لوحدة التعليم في لغة المعاصَرة. وقد عرَّف محمَّد عمارة «المعاصرة» في مقال تحت عنوان «التراث والمعاصرة» بأنها «التواصل مع ثوابت تراثنا وسمات هويتنا والروح الحضارية التي ميَّزت وتميِّز شخصيتنا القومية دونما انغلاق بيننا وبين ما هو ضروري ونافع لاستقلالنا الحضاري، والمعاصرة هنا هي معاصرتنا المتميِّزة لأنها هي التحديد لميراثنا الحضاري والمؤصِّلة لهويتنا المتميزة».
لا شكَّ في أنَّ هذه النبرة في مفهوم المعاصَرة هي نظرةٌ مغايرةٌ تماماً لما ورد في كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» لطه حسين، إذ يدعو إلى أن تسلك الثقافة الوطنية ما سلكه الغرب في طريق التعليم. ويضيف قائلاً: «فالتعليم الصَّحيح لا يستقيم في بلدٍ من البلاد الراقية إلا إذا اعتمد على اللاتينية واليونانية في الجامعة، ولا يغني عن تدريسهما في المدارس العامة بل يستلزمه استلزاماً».
هذا التحديد هو تحديدٌ غربيٌ منقولٌ حرفياً من النقاش الذي نشأ في سياسية التعليم في فرنسا ابتداءً من عام 1880، إذ قامت عام 1880 مواجهة بين أنصار الثقافة الحديثة ضد أنصار الثقافة التعليمية.
هذا النقاش يُجسِّد عملية الثقافة، وهي لا تكمن في المعرفة وحسب بل في الوعي والتكوين الفكري، وهذا النموذج نقله طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» كنتيجة وليس كخطة عمل صالحة للتنفيذ.
هذا التباين بين فاعلية المنهج في الغرب من جهة، وتراكمية نتائجه في الشرق من جهة ثانية، أضاع الفرصة في التواصل بين عالمنا والغرب في الإطار الثقافي، تواصلٌ يضع الثقافة العربية والإسلامية في وحدة الفكر، في الأزهر كما في الجامعة.
وعلى رغم أنَّ كلاً من الجامع الأزهر وجامعة القاهرة أفرزا علماء وأساتذة كباراً، لكنَّ كلا المرجعين أفرزا في الوقت ذاته من اعتبروا «شهداء الرأي» منذ علي عبد الرازق إلى نصر حامد أبو زيد مروراً بغيرهما... وذلك لضياع الترابط في الحوار منذ البداية بين صيغ القديم والحديث في إطار المعرفة.
2) في الحوار بين الشَّرق والغرب: ليس من شك في أنَّ ثمَّة مسافة فراغ بين مصطلحات ومرتكزات الثقافة الغربية والثقافة العربية الإسلامية، وهذه المشكلة تمَّ وعيها ودرسها في جهودٍ مُعمَّقة نذكر منها دراسات المفكِّر الجزائري الأصل الدكتور محمَّد أركون، ودراسات المفكِّر التونسي هشام جعيط، كما تبدو في دراسات المستشرق الاجتماعي الفرنسي الجزائري الأصل جاك بيرك «العرب بين الأمس والغد»، وبالخصوص في الفصل الأخير من الكتاب، وكذلك دراسات المفكِّر المصري الدكتور حسن حنفي، وتطرح دراسات المفكِّر الجزائري مالك بن نبي المشكلة في مداها العملي.
أشار بن نبي في هذا الإطار إلى فقدان التواصل بين الأجيال في معايير التراث واستشراف المستقبل، إذ كتب في مذكرته الخاصة في 25 تشرين الأول (أكتوبر) 1963 في أعقاب نقاش أجراه عند عودته إلى الجزائر الملاحظة التالية:
«إن الأجيال الإسلامية تتوالى لكنها لا تتوارث، بينما الفكر الغربي يشعُّ من حاضره إلى مستقبله، وهو يحتفظ برؤيته نحو الماضي، لذا لا تجد في المجتمع الإسلامي (مجتمع ما بعد الموحِّدين) شخصية لميكيافللي مهتم بأن يضع في عصره جهاز نقلٍ (relais) يُوجِّه عبره رسالةً إلى عصرٍ قادم».
وفي هذا الإطار، يشير محمَّد أركون إلى نقطةٍ جديرة بالاعتبار في موضوعنا، وهي أنَّ «الشعوب العربية والإسلامية تعاني اليوم أسوأ أنواع الفوضى المعنوية والتمزُّقات الأيديولوجية المأسوية التي تغذي الحروب الأهلية نتيجة الإحساس المرير بالإحباط ونتيجة الوعود التي بذلت لها ولم تحقَّق، وذلك لأنَّ هذه الشعوب توقَّفت عن إنتاج تاريخها الخاص منذ القرن التاسع عشر، بالتالي لم يعد مصيرها بيدها منذ ذلك التاريخ المعاصر(...). والمأساة تكمن في أنَّ العقل الحديث الذي وُلِدَ وترعرع في أوروبا يرفض أن يتحمَّل مسؤولية ذلك الإرث التاريخي الثقيل الذي أنتجه، فهو يُفضِّل إعفاء نفسه من المسؤولية ويقول أنه لا يخصُّه».
من هنا يتبين لنا أن طرح فكرة «التواصل بين الأزهر الشريف جامعاً وجامعةً مع الغرب الأوروبي والأميركي» يرتبط بصورةٍ أساسيةٍ بمنهج التواصل وغايته، ثمَّ في حجم الحضور الذي غاب منذ القرن التاسع عشر على المستوى العالمي، إذ لا بدَّ من أن تستعيد مؤسساتنا التراثية التاريخية حضورها من جديد، والأزهر الشريف في المقدِّمة، من أجل أن يستعيد دوره التاريخي في إعادة النظر بأسس التعاطي مع التراث.
والجامع الأزهر يتميَّز عن سائر الجامعات في أنه ذاكرة عالمية تكوَّنت في حضن التراث، فبات أحد وجوه حضوره في العالم وفي التاريخ. إنه يمثل تقلُّب ما مضى قوَّةً وَوَهْناً، لأنه معيار مسيرة الحضارة الإسلامية في دورتها الخلدونية، بينما الجامعات التي أُحدِثت منذ بداية القرن العشرين هبطت على سطح المجتمع الإسلامي من سماء العصر الغربي الحديث في مفهومه الديكارتي، وذلك مع عصر الأنوار المشبع باستشراقٍ استعماري.
وهكذا يبقى الأزهر نديم الذاكرة عبر العصور ودفء الشعور بالانتماء إلى روح التراث، وهو بذلك أحد مظاهر حضوره في روح الأمة! لذلك كان الهجوم على الأزهر أحياناً أو إطراء مساره أحياناً أخرى ينطلق من مفهومٍ واحدٍ، هو قيمة الأزهر العليا لمرجعية العلم الشريف وحارس للعقيدة.
هذه القيمة تظلُّ دائماً خطاباً في عمق البنية الأساسية التي كوَّنت عقيدة المسلم. فالأزهر نشأ مشروعاً لسلطة حكم، لكنها سلطة كانت بمثابة الصاروخ الذي حمل هذا القمر التاريخي إلى المسار الحضاري ليُشِعَّ بنوره خارج نطاق أي سلطة في تقلُّب الزمان. ولهذا فقد حضنته الروح في عفويتها عبر نظام الوقف، ذلك المداد الروحي والمعنوي والمالي الذي ربط عمق المسلم بتلك الشمولية التاريخية في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، فكان أن أثرى مؤسَّسة الأزهر الشريف ليدفع بالفضاء الروحي إلى مداه الأرحب، وليعبِّر المسلم عن مفهوم المديونية لله.
ولم تقتصر هذه المديونية على نمط الحضارة الإسلامية، بل كانت مفتاح الحضارات جميعاً، ولكن السببية الديكارتية التي أدخلت النهضة في آلية الاختيار الغربي في نطاق المصير الإنساني تركت في العصر السابق عليها (أي العصر المسيحي) المفهوم الغيبي الذي هو الأساس في معنى المديونية لله في السلوك. وهكذا أصبح الفرد هو القوَّة العقلية النهائية، وقد أثر ذلك على القضية الأخلاقية، فأضرَّت أوروبا بنفسها وبالعالم.
3) المشكلات الراهنة: إنَّ الورقة الأساس التي بُنيَت عليها دراستنا تنطلق من حقيقتين اثنتين:
- الأولى هي أنَّ الأزهر ظلَّ عبر التاريخ الحفيظ على وسطية الأمة التي انفرط عقدها.
- والثانية هي أنَّ مؤتمرات الحوار التي شاركت فيها جامعة الأزهر في أوروبا وأميركا أثبتت أنَّ ثمة خللاً متبادلاً في منهج الحوار بين الفريقين، وأنَّ أبرز وجوه هذا الخلل هو نقص المعرفة المتبادلة من الجانبين.
وأمام هاتين الحقيقتين، نرى أنَّ ترابط الدوائر يُؤسِّس لترتيب موضوعي في ترابط المشكلات التي نشأت مع المرحلة التاريخية لمكونات الحضارة الإسلامية في منازلها القديمة، وهي منازل تختلف عن منازل الحضارة الغربية في منطلقاتها.
وهذا ما نراه واضحاً في التباين بين منطلقات العولمة في ثقافة الأوروبيين ومشكلات المسلمين المقيمين في أوروبا.
فالمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث نشر لعلماء مغاربة ومشرقيين قدَّموا بحوثاً مهمة ذات ثراء واسع من أجل وضع حدود للتقيد بواجبات الإسلام في عالم مختلف. كما برزت في أوروبا مؤسَّسات انفتاح في عرض فكرة الإسلام في عالم أوروبا وفرنسا، وعلى الأخص «مركز جنيف» للأخوين طارق وهاني رمضان، ابني الشيخ سعيد رمضان وحفيدي الشيخ حسن البنَّا، مؤسِّس جماعة الإخوان المسلمين في مصر في أواخر عشرينات القرن الماضي.
وفي دراسةٍ قدَّمتها باحثتان فرنسيتان في شؤون «التكاملية الاجتماعية والديموغرافية» في فرنسا هما ميشيل تريبالا وجان-هيلين كالتمباك تحت عنوان «الجمهورية والإسلام» تم استعراض مشكلة الجمهورية الفرنسية التي قامت على العلمانية الدستورية في فصل الدين عن التكوين التربوي الوطني، إذ ثمَّة تماس وتداخل بين رعاية المسلمين القادمين من بلادهم الذين منحوا الإقامة أو اكتسبوا الجنسية الفرنسية، في حين أنَّ انتماءهم إلى ممارسة الإسلام في فروضهم ضمن معايير الفتاوى المختلفة أورث تعارضاتٍ في ما بينها. وقد انتهت الدراسة إلى نتيجة أساسية هي أن العقبات الجذرية التي تحول دون اندماج المسلمين (سواءٌ القادمين من المغرب أم من المشرق أم المجنَّسين) بالثقافة الفرنسية هي عقباتٌ يصعب تجاوزها مع النظام العلماني، وطرحت الدراسة تساؤلاً أساسياً: ماذا يبقى من العلمانية إذا جرى التوفيق بينها وبين هذه التعارضات؟ وانتهت إلى نتيجةٍ مفادها أنَّ ذلك يُشكِّل خطراً حقيقياً على مفهوم الجمهورية والعلمانية.
إنَّ هذا كله يُحدِّد معيار الحوار المطلوب في هذه الندوة بين الأزهر الشريف وبين أوروبا بالخصوص في تقديم الإسلام كقيمة اعتدال ووسطية أمام لحرب الضروس التي توجه على الإسلام والعقيدة الإسلامية.
ثانياً– مُكوِّنات البنية الفوقيَّة والوسطيَّة
وفقاً لموضوع المؤتمر، فإنَّ الهدف من ملتقانا يتمثل في حقيقتين أساسيتين لا بدَّ من تناولهما بالبحث للوصول إلى امتلاك الأزهر الشريف خطاباً من تراث الأمة العقلي والروحي. وفي إطار هذا الهدف، يتم التركيز على الوسطية والاعتدال كأسلوب أساسي في تناول المشكلات.
وإذا تتبعنا الإرشاد القرآني مع آية الوسطية فيه، وجدنا هذه الآية في سورة البقرة قد رسمت لختام الرسالات السماوية بالإسلام دورها الموحد في عالمٍ جديدٍ، وهو عالمٌ سوف يأتي على تواتر الخُطَى ابتداءً من القرن السادس الميلادي إلى نهاية العالم في غياب الرسل والأنبياء وفي اندفاع نحو التكاثر المستبد بالطبيعة الكونية، حيث الحضارة الغربية الوثنية الفردية أضرَّت بالعالم وبنفسها. من هنا جاءت الآية الكريمة (وكَذلِكَ جَعَلْنَاُكمْ أمَّةً وَسَطاً لِتكُوْنُوا شُهَدَاءَ عَلَىَ النَّاسِ وَيكُوْنَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيْداً) تطرحُ منهجاً لجميع العصور والتقلبات، لأنه مفهومٌ كونيٌ في النتيجة. وهكذا غدت هذه الآية طريقاً لمسار مسؤولية الرسالة الإسلامية في موكب الإسلام الجامع بالإرشاد الإبراهيمي للأديان السابقة عليه.
فالوسطية ليست نزعةً أخلاقيةً فحسب، بل هي أيضاً نزعةٌ موضوعيةٌ باعتبارها المعيار والأسلوب في تناول المشكلات عموماً في مفهوم العقيدة الدينية، ولذا وصف الله عزَّ وجلَّ في الآية التي تلتها «الجدل» في أساس الوسطية بأنه «السفه».
هذا المفهوم التجريدي يسوقنا إلى الموضوعية كمنهجٍ وأسلوبٍ، ومن هنا يمكن أن نتحدَّث عن الفاعلية الاجتماعية في الأداء باعتبار السلوك الفردي والجماعي واحداً في معيار الثقافة والحضور في العالم. وانطلاقاً من هذه الوحدة النوعية في تكوين المسلم في عفوية البيئة التراثية.
فالمسلم اليوم ليس في واقعٍ نفسي أو فكري يقدم عبره وسيلة مثلى تجذب أنظار الغرب وهنا ما عليه إلا إذا أن يتأهَّل حضوره في معطيات العصر كمؤثر بشخصه أولاً ثم وما يمثل في عمق حضوره الفكري الوسطي وليس كحامل للتراث فحسب.
هذا هو أساس المشكلة، ومن هنا لا بدَّ من إعادة ترتيب المعادلة، سواءٌ في العلاقات مع العالم أم في الإطار الوطني، لأنَّ شمولية الإسلام تتطلَّب شمولية حضور المسلم في كل المشكلات المطروحة الداخلية في الإطار الوطني بين سائر أطراف ساحته، إذ إن المسلم كثيراً ما يعيش داخل أسوار ذاكرته في شمولية العقيدة من دون أن يكون موقفه شمولياً، وهو كذلك في إطار العالم، أي في الانفتاح والمبادرة والإسهام في حلِّ المشكلات الغربية والبعيدة لأنه يحمل رسالة بلاغ إلى العالم كلِّه.
ومن هنا، وفي إطار المبادرات الشمولية والفاعلة التي أشرنا إليها، تنقلب مكانة الأزهر التاريخية في العالم من سجل المعالم إلى مساحة هموم المعاصرَة، فالأزهر الشريف استطاع العطاء والحضور برجاله في تميُّزٍ قيادي كلَّما تحقَّقت له في التاريخ مدارات الاستقلال عن السلطة بفضل مؤسَّسة الوقف. فحين تضع السلطة السياسية يدها على مفهوم الوقف تشعرنا بذلك العقم الذي أصاب حيوية الوقف ومؤسَّساته، كصورةٍ لعقم الإطار التراثي في حركة المجتمع، كما أشار الأستاذ طارق البشري.
فالثقافة العربية الإسلامية لم تتجسَّد في التيار الفقهي ولا في عقلانية الفلسفة ولا في الاتجاه الصوفي، فمفهوم العربي الإسلامي ليس مفهوماً جزئياً لثقافة أكثر شمولية، إنه يشمل مجموع أغصن شجرة الإسلام الثقافية الموحدة أساساً في وحدة الله والكون في مداها ومنهجها على امتداد خمسة قرون من التفتح.
والثقافة الإسلامية كانت لغة مشتركة مع أفق الوحي الذي لا يُمحَى وهي مضت تجتاز المجالات الجغرافية والعقلية في خراسان كما في إسبانيا، من ابن سينا إلى ابن رشد الفقيه والفيلسوف المادي، ثم إلى وحدة الثقافة التي كانت دائماً واحدة.
وبقدر ما يخرج عبر هذا الأفق من هذه الحواجز، فإن الأزهري سوف يجد لغةً حواريةً لدى عقلاء الغرب تنطلق من القرآن الكريم، إذ سيدرك هؤلاء العقلاء كم أن خروج مسارهم الحضاري الغربي عن وحدة الله والكون أسرع بمجرى الحضارة الغربية إلى مصبِّها الأخير، وهي تنتظر اليوم من حصاد هذا المصبِّ بعث حضارةٍ تنقذ الإنسانية من محنتها، وكم أنَّ محدِّثه المسلم المساهم معه في الحوار فتح له آفاقاً في رسالة الإسلام.
فالإسلام هو دين المستقبل بقدر ما يكون حَمَلَةُ الإسلام وسنده التنفيذي رجالُ المستقبل.
* محاضرة ألقيت في ندوة عن «الأزهر ورسالتنا إلى العالم العربي».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.