وزير الطاقة يجتمع مع نظيرته الأمريكية ويوقّعان «خارطة طريق» للتعاون في مجال الطاقة    «الداخلية» تطلق ختماً خاصاً للمستفيدين من مبادرة «طريق مكة»    تحت رعاية ولي العهد.. انطلاق الملتقى العربي لهيئات مكافحة الفساد ووحدات التحريات المالية    «أثر نلمسه».. إصدار يرصد إنجازات التحوّل الوطني    "GREAT FUTURES" تعزز الشراكة الاستراتيجية بين المملكة وبريطانيا    واتساب يختبر ميزة تلوين فقاعات الدردشة    المزروع يشكر القيادة بمناسبة ترقيته للمرتبة 14    «نافس».. منافع لا تحصى لقياس الأداء التعليمي    المنتخب السعودي للعلوم والهندسة في سباق للمجد.. الجمعة    "تاسي" أحمر والراجحي وأكوا باور يرتفعان    الشيخ خالد بن حميد يشكر القيادة الرشيدة بمناسبة ترقيته للمرتبة الخامسة عشرة    لقاح جديد لحمى الضنك    نائب أمير الشرقية يستقبل منتسبي "طويق"    واشنطن مستمرة في دعم إسرائيل بالأسلحة    ولي العهد يهنئ رئيس وزراء سنغافورة    خادم الحرمين يصدر أوامر ملكية    قمة البحرين ظروف استثنائية لحلحلة الأزمات    بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل يختتم دورة "تدقيق سلامة الطرق    المدربات السعوديات يكتسبن الخبرة الإفريقية    الأهلي يتمسك بذهب السيدات    أمير منطقة تبوك يتفقد مبنى مجلس المنطقة وقاعة المؤتمرات    فالفيردي: نلعب باسترخاء كبير في الوقت الحالي ونتطلع لنهائي دوري الأبطال    حالة رئيس وزراء سلوفاكيا حرجة بعد تعرضه لمحاولة اغتيال    الأحزاب المصرية: تصريحات متطرفي إسرائيل محاولة يائسة لتضليل العالم    افتتاح منتدى كايسيد للحوار العالمي في لشبونة    غوارديولا: لولا تصدي أورتيغا لكان أرسنال بطلا للبريميرليغ    4 أحزمة ملاكمة تنتظر من يحملها على أرض "المملكة أرينا"    القبض على مقيم لارتكابه أفعال خادشة للحياء    رئيس سدايا: السعودية مثال دولي في الذكاء الاصطناعي المسؤول والأخلاقي    «البلسم» تختتم حملتها الطبية في اليمن وتنجح في إجراء 251 عملية قلب مفتوح و«قسطرة»    زين السعودية تعلن عن استثمارات بقيمة 1.6 مليار ريال لتوسعة شبكتها للجيل الخامس 5G    «الموارد»: تمكين 22 ألف مستفيد من «الضمان» في سوق العمل خلال الربع الأول من 2024    الجامعة العربية تدعو مجلس الأمن لاتخاذ إجراءات سريعة لوقف العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين    مدير تعليم الأحساء يكرم الطالبة الفائزة ببرونزية المعرض الدولي للاختراعات    رئيس جمهورية المالديف يُغادر جدة    ضبط 264 طن مأكولات بحرية منتهية الصلاحية    وزير العدل يلتقي رئيس المجلس الدستوري في فرنسا    «النيابة»: باشرنا 15,500 قضية صلح جنائي أسري.. انتهاء 8 آلاف منها صلحاً    زلزال بقوة 5.1 درجات يضرب جزر قبالة سواحل نيوزيلندا    أمير تبوك يثمن للبروفيسور " العطوي " إهدائه لجامعة تبوك مكتبته الخاصة    «الصحة» تدعو الراغبين في الحج إلى أخذ واستكمال جرعات التطعيمات    نيمار يبدأ الجري حول الملعب    فيغا يعود للتدريبات الجماعية للأهلي    أفضل الإجراءات وأجود الخدمات    وزير الحرس الوطني يرعى تخريج 2374 طالباً وطالبة من «كاساو»    أمير حائل يكرم عدداً من الطلاب الحاصلين على الجائزة الوطنية بمبادرة «منافس»    تمكين المواهب وتنشيط القطاع الثقافي في المملكة.. استقبال 2200 مشاركة في مبادرة «إثراء المحتوى»    إطلالة مميزة وطراز معماري فريد.. قصر العان.. قيمة تراثية ووجهة سياحية    أمير تبوك ينوه بالخدمات الراقية لضيوف الرحمن    اطلع على تقرير« مطارات الدمام» واعتمد تشكيل «قياس».. أمير الشرقية يؤكد على تجويد الخدمات ورضا المستفيدين    طموحنا عنان السماء    حجز العربات الكهربائية عن طريق "تنقل".. وصول أولى رحلات مبادرة «طريق مكة»    حمام الحرم.. تذكار المعتمرين والحجاج    انطلاق برنامج الرعاية الأكاديمية ودورة البحث العلمي في تعليم الطائف    ..أنيس منصور الذي عاش في حياتنا 2-1    ( قلبي ) تشارك الهلال الأحمر الاحتفاء باليوم العالمي    الكلام أثناء النوم ليس ضاراً    تأثير العنف المنزلي على الأطفال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بلاغ لمن يتدبر .. «الإسلام الدين الحق .. لخلاص الخلق»
نشر في البلاد يوم 08 - 10 - 2009

ذكرنا في الحلقة السابقة التحديات التي واجهت الأمة العربية وانطلاقات الدفاع عن الذات والأرض والعقيدة والثقافة والسعي للحاق بركب الحضارة الحديثة بما توفر لنا من إمكانات ونستكمل اليوم بقية المقال.
وإليكم بعض تلك القيم أو تلك الاتجاهات كما يعكسها شعرهم وهو يمثل حياتهم أصدق تمثيل وأن قيمة المرء بشرفه لا بماله:
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه
خلق وجيب قميصه مرقوع
ذلك أن المال في نظره عرض زائل ووديعة مستردة..
أماوي أن المال غاد ورائح
ويبقى من المال الأحاديث والذكر
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
ولكن العربي لا يزهد بالمال لأن المال وسيلة لعمل المعروف وحماية النفس والذود عن الشرف والعرض والكرامة وليس جمعه غاية لذاته:
وقد علم الأقوام لو أن حاتما
أراد ثراء المال كان له وفر
فإني لا آلو بمالي صنيعة
فأوله زاد وآخره ذخر
يفك به العاني ويأكل طيباً
وما أن تعريه القداح ولا الخمر
ويقول الآخر:
وأجعل أموالي لعرضي جنة..
ويقول آخر واصفا الفرق بين استعمال المال في موضعه وبين الطمع والشح:
ونقي بآمن مالنا أحسابنا
ونكف شح نفوسنا في المطمع
ونقيم في دار الحفاظ بيوتنا
زمنا ويظعن غيرنا للأمرع
ولذلك يفضل عيش الكرامة مع الفقر أو الموت.
فعش معدماً أو مت كريماً فإنني
أرى الموت لا ينجو من الموت هاربه
والعربي أقدر الناس على أن يفهم عمق الحكمتين العظيمتين "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" و "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن اعطي رضي وان لم يعط لم يرض". والأولى حكمة قالها المسيح عيسى والثانية من قول الرسول محمد عليهما الصلاة والسلام.
ذلك أنه كان يحتقر من يكون همه في الحياة وغايته الطعام والشراب والملبس أو المال بل كان صعاليك العرب وهم خير من أشراف الأمم اليوم لا يقبلون لأنفسهم هذه الفلسفة.. يقول عروة بن الورد وهو من الشعراء الصعاليك:
لحا الله صعلوكاً مناه وهمه
من العيش أن يلقي لبوساً ومطعماً
ولله صعلوك يساور همه
ويمضي على الأحداث والدهر مقدماً
لم تكن فلسفة العربي في يوم من الأيام فلسفة البطن والمعدة حتى في جاهليته لأنه كان يحتقر هذه الفلسفة وليس معنى ذلك طبعاً أنه كفقراء الهند ورهبان البوذية لا يسعى لملء بطنه الجائع ولو بالقوة اذا اقتضى الأمر فالعربي لم يكن يقبل فلسفة الفقر ولم يكن يرضى بالمعيشة الدنيا:
فتى ليس بالراضي بأدنى معيشة
ولا في بيوت الحي بالمتولج
لأن المال عنده وسيلة لغايات كريمة.. يقول عروة أيضاً:
دعيني أطوف في البلاد لعلني
أفيد غنى فيه لذي الحق محمل
أليس عظيماً أن تلم ملمة
وليس علينا في الحقوق معول
يريد أن يكون غنياً لا ليملأ البطون ولا لينال الرغيف ولكن ليقيم الحق ويعين الضعفاء لذلك لا يبطره الغني لأنه لا يرى فيه شرفا ولا بذلة الفقر لأن المال لا يكسب صاحبه شرفاً ولكن العمل الطيب هو الذي يزينه:
شربنا بكاس الفقر يوما وبالغنى
وما منهما إلا سقانا به الدهر
لما زادنا بغياً على ذي قرابة
غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
ولم تكن كذلك شهوته الجنسية وسائر الشهوات المادية مسيرة له في حياته بل كانت العفة وحفظ الأنساب والأعراض أمراً اساسيّاً في الحياة:
قال الأعشى:
لا يهتك الستر عن أنثى يطالعها
ولا يشد إلى جاراته النظرا
وقال حاتم:
وما ضر جاراً يا ابنة القوم فاعلمي
لمن يجاورني أن لا يكون له ستر
بعيني عن جارات قومي غفلة
وفي السمع مني عن حديثهم وقر
وقال عنترة:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها
واكتفي بما ذكرت للدلالة على ما كان العرب في الجاهلية من مظاهر الاتجاه المثالي في الحياة ولو أردت أن استشهد لسائر هذه المظاهر والمكارم الأخرى كحماية الجار والحليف واستعذاب الموت في سبيل الكرامة والكرم والشجاعة والاحترام والوفاء بالعهود والوعود وغيرها من المكارم لطال بنا القول.
وهذا هو أدبنا الأصيل لا تلك القصص الخليعة الماجنة التي نعيش فيها عالة متطفلين على الأدب الأوروبي اللاسليم.. وهذا الاتجاه المثالي عند العرب في الجاهلية لا ينافي وقوعهم في كثير من الخطأ والاسرف والضلال في اتخاذ الطريق إلى هذه المثالية وفي تحديد المثل الأعلى.. وليس الثأر للقبيلة ووأد البنات عند بعض القبائل وتلاف المال بدافع الكرم والمناصرة بالعصبية والفخر بالآباء والأنساب إلا مظاهر لهذا الخطأ في تحديد الهدف واصابة المثل الأعلى ولكننا اذا وازنا بين هذه الفطرة الصالحة والاستعداد النفسي للحياة الكريمة المثالية ضمن ما كان عند كثير من الامم الاخرى من انكباب على الشهوات واستئثارها بالملذات وانحلال خلقي ومادية طاغية وأخلاق غير انسانية عرفنا الحكمة العظيمة في أنه في هذه البيئة نزلت رسالة الاسلام وعلى صعيد بلادنا العربية تنزلت رسالات سماوية عديدة من ابراهيم عليه الصلاة والسلام التي أسست على التوحيد وانتهت برسالة الاسلام التي رسمت الصورة الكاملة للمثل الأعلى الانساني فكان التجاوب العميق بين الامة العربية ذات النزعة المثالية والفعالية القوية المعطلة إلا في حدود ضيقة.. بين هذه الأمة وتلك الرسالة الالهية المصدر الانسانية الهدف العالمية الأفق اعطاهم الاسلام المثل الأعلى الذي أرادوه وأعطوا هم للإسلام العقل المفكر والنفوس المستجيبة واليد العاملة، أعطاهم المبادئ العامة فأعطوه المادة البشرية والقوة المنفذة وصاغوا من تلك المبادئ حضارة انسانية نموذجية هي الشكل الحي المجسد لتلك المبادئ.. فكان لها قوة انتشار في العالم مزدوجة باتجاهها الانساني العام في أصلها وبالصورة التي طبقت فيها وجسدت في حياة عملية قدمها العرب أنفسهم من أتباع الرسول العظيم وتلاميذ النبي العربي من أمثال علي وخديجة وفاطمة وعمر وعائشة وأبي عبيدة وأبي بكر وأبي ذر وأسماء وخالد وسعد وسلمان وأضرابهم وأضرابهن من قدموا وقدمن صورة للإنسان النموذجي وللأسرة المثالية وللحكومة المثالية...
إن ما كان عند العرب من استعدادات ونزعات وامكانيات أظهرها الاسلام واستثمرها لخيرهم وخير الانسانية ووسع أفقها ونقلها من الصعيد القبلي الضيق إلى الصعيد الانساني حتى لم يعد العرب ملكاً لأنفسهم فحسب بل ملكاً للإنسانية ودواء لها ورواداً لشعوبها وقادة لأممها.. وخلاصاً من آلام الحياة الدنيا وسعادة سرمدية في الحياة الأخرى إن التزموا بما أرشدهم إليه رسل الله..
إن المجال الذي فتحه الاسلام للإنسانية أمام العقل ليفكر واليد لتعمل وتستثمر والنفس لتسمو وترتقي من واقعها الأرضي المتقلب إلى الكمال الإلهي الأزلي ان ذلك كله كان لا بد له من معلم يفهم فيحسن الفهم ويتمثل فيحسن التمثل ويطبق فيحسن التطبيق وكان هذا المعلم "الأمة العربية"..
إن في تاريخ البشرية ظاهرة عامة يجب دوماً أن تلفت نظرنا وهي ظاهرة التفاعل بين المبادئ والشعوب ولذلك كان من المهم جدا تتبع الفهم العربي الاول للاسلام وجعله مصدرا اساسيا لتفسيره ويرى الشاعر الاسلامي الهندي "محمد اقبال" ان العقل العربي كان أقوى على استساغة الاسلام استساغة صحيحة وأجدر بحمل أمانته وانه اصيب الكثير من اتباع الاسلام بما اصيب به الكثير من اتباع المسيحية وكان الشاعر الهندي العظيم يعجب بالشعر الجاهلي القديم، يعجب بصدقه وواقعيته وما يشتمل عليه من معاني البطولة والفروسية..
لقد تلاحقت الموجات الروحية على صعيد بلادنا يؤكد بعضها بعضا ويتمم بعضها بعضا فقد تنزلت في أرض العرب ديانة ابراهيم عليه الصلاة والسلام وهي الديانة التي دعت إلى التوحيد ووطدت دعائمه فكانت القاعدة الأولى القديمة والمستقر الأول لعقائد العرب وأخلاقها.. وتنزلت ديانة موسى عليه الصلاة والسلام.
وبعد أن بعث الله المسيح عليه الصلاة والسلام بتعاليم النصرانية في فلسطين وصلت اصداؤها إلى العرب فدان فريق منهم بها.. ولما ظهر الاسلام مصدقا لما بين يديه من النبوات والكتب ومجدداً لملة ابراهيم التي توالت بعدها الديانات والمثل الروحية والمبادئ الخلقية وتلاحقت وكان صعيد بلادنا مسقطها ومستودعها ومجتمعها ظهرت فيه مجتمعة متعاونة مشتركة في جوهر العقيدة النظرة الاساسية إلى الوجود وذلك بربط الانسان روحه ونفسه عقله وغريزته بالله الخالق.. خالق الناس أجمعين فالخلق كلهم عباد لله.. ومن هنا كانت الفكرة الإنسانية والمسؤولية أمام الله الخالق اساس هذه الديانات في عقائدها وكانت معاملة الناس على أنهم مخلوقات الله وعباده يتساوون في عبادة الله الأحد في عقيدة الايمان بالله والمسؤولية في الحياة الآخرة أساس التعاليم الاخلاقية المشتركة بين خلق الله سبحانه في الأرض..
لقد ارتبطت مكارم الأخلاق عند العرب وتفضيل القيم الخلقية عندهم بأساس عقائدي عميق الجذور في نفوسهم منذ عصور بعيدة جداً ولذلك كانت الوثنية دخيلة طارئة على العرب في فترات قصيرة قليلة من حياتهم وكان الإلحاد كذلك بعيداً عنهم لا يظهر في تاريخهم إلا مقترناً بالشعوبية الحاقدة على العرب.. فالعربي سواء أكان على دين ابراهيم أو كان يهوديّاً أو نصرانيّاً أو مسلماً كان دوماً مؤمناً بالله إيماناً عميقاً تصله به الطبيعة التي يعيش في أحضانها ولا تفصله عنه ولا تحجبه الوسائط ولا الخرافات والأساطير ويشعر في أعماق ضميره بالمسؤولية أمامه فيوقظ الإيمان ضميره ويرهف حسه الخلقي.
ولا شك أن المثل الروحية سماوية مقدسة لخير الإنسانية عامة ومن هنا كانت قيمتها وليست محصورة بالعرب - ومعاذ الله أن ننكر ذلك - ولكن هذه المثل الروحية توضعت على صعيد بلادنا، وتوطدت ورسخت واتخذت لها جذوراً اكثر من أي صعيد آخر.. لقد وجدت فيه أحسن صور تطبيقها وأروعها وأقواها وأكثرها توازناً وواقعية.
لقد شهد الصعيد العربي مولدها وبعث صوتها كلما خفت، وأوقد شعلتها كلما خبت وعاصرها طويلا وتجاوب معها ومنه كان انطلاقها وإليه كان موئلها واعتصامها.
وشحب لونها وهزلت في العصور التي غاب فيها العربي عن الاشراف والقيادة وتولى حراستها غيره فاصابها التشويه والانحراف..
ولقد كانت معارك الأمة العربية الكبرى معارك يكون فيها الخصم دوماً عدو القيم الخلفية والمثل الروحية ويقف العرب دوماً مدافعين عنها.. ألم يشد القرآن بشهداء النصرانية في سبيل العقيدة والايمان الذين كانوا يحرقون في الاخاديد؟
(قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا يؤمنوا بالله العزيز الحميد).
ألم يبشر القرآن المؤمنين بانتصار الايمان والمثل الروحية على المجوسية؟
(الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم).
وهل كانت معارك الفتوح الاولى في الاسلام الا في سبيل تحرير البشر من ان يستعبد بعضهم بعضاً وتحريرهم من الظلم؟ فكانت مضرب الامثال.. في انسانيتها في وصاياها وفي تطبيقها للحقوق والحرمات والحريات ولذلك لم تزل اثارها باقية حتى يومنا هذا رغم خروج الفاتحين من افغانستان وباكستان وايران وروسيا وتركيا وغيرها حيث لا تزال الثقافة العربية واللغة العربية والمثل الروحية التي حملها العرب ولا يزال اهل تلك البلاد يعتزون بها رغم انه لم يبق للعرب فيها اي نفوذ سياسي ومعاركنا مع المغول والتتار لم تكن الا معارك بين معالم الحضارة ومؤسساتها وقيمها الانسانية من جهة والهمجية البدائية من جهة اخرى.
ومعاركنا مع اوروبا قديما وحديثا هي من هذا النوع كذلك فمعاركنا مع اوروبا في الحروب الصليبية هي معارك بين شعوب لا تزال الهمجية غالبة عليها ولم يكن لها من المسيحية الا الرداء الظاهر والصبغة الخارجية ومعاركنا الجديدة معها سواء في الحرب او السلم هي معارك مع وثنيتها الجديدة مع الرأسمالية والنفعية والجشع المادي والتميز العنصري والاستعلاء القومي او مع مذاهبها المادية الاخرى في صورها الاشتراكية التي تطرد من الحياة الانسانية كل نسمة روحية او نفحة إلهية او عاطفية انسانية ولا تحسب الحساب الا للانتاج ووفرته وطريقة توزيعه فالانسان فيها حيوان منتج ومستهلك وحسب وليست عقائده ولا اخلاقه ولا آدابه وفنونه الا خادما للانتاج والاستهلاك او منبثقا عنها ومع ذلك فاننا اذا جافينا المذاهب المادية فاننا لا نتقاتل مع اصحابها الا اذا قاتلونا ومنعونا حقنا في ارضنا وعقائدنا وانفسنا واوطاننا.
ان معركة بناء كياننا الاسلامي وبعثه من جديد ليست الا ضد الظلم والشر والباطل وانتصارا للحرية والعدالة والخير والحق.. ان معركة بناء كياننا الاسلامي وبعثه من جديد غايات بعيدة واهدافا عليا من ورائها انها غايات انسانية واهداف خلقية.. ان في قوتنا ووحدتنا وتحرر وجودنا كمسلمين خدمة للانسانية جميعا فصعيد بلادنا العربية بتراثه العريق واستعداده الاصيل معقل الانسانية والاهداف الخلقية بما استقر فيه من ايمان عميق بالله ورسالاته وضمير يقظ حساس وفطرة سليمة.. وبسابقته التي اثبت فيها خلال فترة من الزمن طالت او قصرت.. ان الحضارة بدوافعها النفسية وبواعثها الاعتقادية ونتائجها الانسانية اكثر مما هي بنظمها..
ان الروح الانسانية العميقة تنتج نظما خلاقة عادلة ولكن النظم الرأسمالية والنظم الاشتراكية المادية التي جاءت بها اوروبا بمعسكريها لم تنتج عواطف انسانية.. ان الروح الاسلامية استطاعت ان تخلق نفوسا تطبق الاخاء والتعاون والفداء في سبيل المجموع وتسير في الخط الذي رسمه تشريعه من غير تعقيد.. ولم تستطع الانظمة الاشتراكية المعقدة والقوانين الرأسمالية الملزمة الزاجرة ان تولد العواطف في النفوس وتغير اخلاق الانسان وتهذب غرائزه وعواطفه.. ولذلك فإن لمعاركنا اليوم صدى عالميّاً لعظيم مغزاها.
ان العالم اليوم بحاجة الينا.. بحاجة الى هذا التراث الذي نحرسه ونحن الاوصياء عليه.. ان العالم بحاجة الى العرب المسلمين حقّاً اما العالم الشرقي فليصحح له العرب المسلمون حقّاً ما شوهه من تعاليم الاسلام وما غير من معالمه ودثر من قيمه.. واما العالم الغربي فلنعد اليه روح الايمان وقد نسيها كذلك وشوهها بل مسخها وقلبها ثم طردها بعد ذلك من ارضه.. ولنخرجه من حمى المادية وحمأة الطين التي غاص فيها.
إن هذا الصوت قد خرج من الشرق في اوائل القرن المنصرم وفي السنين الاخيرة منه من مسلمي العرب ونصاراهم.
اما ميخائيل نعيمة فيقول "واها لهذا الشرق ما اضعف ذاكرته واوهن قلبه.. سرعان ما نسي ميراثه وسرعان ما تخلى عن سلاحه الذي لا يفل ليستبدل به سلاحاص يتآكله الصدأ.. كم كنت اتمنى لو يسترد ميراثه وسلاحه.. لعله يستطيع ان يرد العالم الى رشده بدلاً من ان يفقد هو الآخر رشده في عالم جن جنونه.
لئن أحسن الغرب توجيه العقل البشري وتدريبه وتنظيمه حتى بلغ به ما بلغ من بعيد الشأو في دنيا الصناعات والعلوم والفنون فقد اهمل القلب كل الاهمال والقلب هو مهب العواصف التي تعبث بنتاج العقل.. ومصدر السموم التي تفسد على الناس الاستمتاع بذلك النتاج.
وفي موضع آخر يقول: "اما معجزة العرب الكبرى فهي القرآن.. وهي وحدها التي تستطيع ان تجعل من العرب قوة اين منها قوة الاساطيل البرية والبحرية والجوية والقنابل الجهنمية.. واين منها قوة المال والرجال فالاساطيل للصدأ والرجال للموت والمال للزوال اما معجزة القرآن فللبقاء.. ذلك انها اقامت للعرب ولغير العرب هدفاً من حياتهم وكانوا بغير هدف، واختطت طريقا لهم الى الهدف وكانوا بغير طريق.. وما اكتفت بأن اقامت لهم هدفاً واختطت طريقاً بل انها برهنت لهم بحياة النبي وصحبه ان ذلك الهدف مستطاع بلوغه على مر سار في الطريق..
ويقول ايضا فيلا سبازا المستشرق الاسباني: ليس في طاقتنا نحن الاندلسيين المعتنقين بايمان ثابت دين المسيحية ان نجحد دين الاسلام دين اسلافنا فلئن كان الاول مستقرا في ضمائرنا فان الثاني اي الاسلام ما برح مستقرا في نظرة قوميتنا المزدانة بالبدائع كما اننا لو انتزعنا بعض الالوان التي موهت جدران كنائسنا نجد وراءها لمعاً مذهبة لاسم الله الصمد محفوراً بالكوفية.
فاننا لو خدشنا بشرتنا الاوروبية الصفراء لبرز لنا من تحتها لون بشرة العرب السمراء.. فما قوميتنا الغربية الا العرض الظاهر اما حقيقتنا الخالدة فهي القومية الشرقية" ولكن فليكس فارس يعلق على ما قاله المستشرق "فيلا سبازا" اذ فصل بين الاسلام والمسيحية بقوله: "ولأقف هنا امام هذا الشاعر الكبير الذي يرى المسيحية مستقرة في ضميره والاسلام مستقراء في فطرته لأقول له: انه بالرغم من ادراكه ان الغرب قد بدل فلسفته المسيحية لم يتمكن من ايصال الاسلام الى ضميره كما انه امتنع عليه ان يبلغ بالمسيحية الى فطرته وبقى النزاع مستحكماً فيه بين الفطرة والضمير لان ثقافته المسيحية لم تزل متأثرة بالاحاجي والمعميات".
ثم يقول ان هذا الوحي الواحد اصله المنزل من السماء لاصلاح الحياة في ثلاثة ازمان مختلفة لا يتجلى للغريزة الشرقية المستنيرة الا صوتا واحدا تعالى ثلاث مرات داعياً الى المعروف وناهياً عن المنكر وما كان عيسىة مناقضاً لموسى.. ولا كان محمد ناقضاً لعيسى.. اننا لو عرينا حياة المسيحي مما علق من عادات اليونانية وعادات اليهود من الحقد والتسامي وحياة المسلم من عادات الاعاجم حديثي العهد بالاسلام ورجعنا الى الكتب السماوية الوضيئة لصعب علينا ان نعين موضع الفرق بينها وقد جمعها القرآن الحكيم وغيرها من الرسالات المقدسة في ابداع فريد وضمن الله البصير الخبير بعباده حفظ الله هذا الكتاب الآية المعجزة المقدسة الى يوم الدين.. ليكون منهاج نور الهدى في كل زمان ومكان".
ثم يقول: "انني اعترف جهاراً انني برغم امكاني تفهم روح الموسيقى الغربية لان امي انشدتها فوق سريري وانا طفل وامي من وطن (جان جاك روسو) مستلهم الشرق في ثورته. انني بالرغم من ذلك لا افهم الموسيقى الغربية الا بدماغي اما اصداء روحي فانها لا تتجاوب الا اذا سمعت في السحر اصوات الاجيال القديمة في امتي تهتف في اعالي المآذن.. حي على الفلاح.. حي على الفلاح.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله..).
اما الصوت الثالث الذي ذكرته لكم فأكتفي ان احيلكم على ما كتب وسطر وكأنه اراد ان يبلغ هذا الصوت الى الغرب فكتب كتبه بالفرنسية ثم ترجمت الى العربية وأعني به الفيلسوف العربي مالك بن نبي الجزائري.. وهو مؤلف كتاب: "مستقبل الاسلام".
وكتاب "وجهة العالم الاسلامي" وكتاب "الفكرة الاسيوية الافريقية" و"الظاهرة القرآنية" و"شروط النهضة" وكتب ومحاضرات اخرى..
ان خلاصة نظرية مالك بن نبي ان الحضارة الغربية قد آلت الى افلاس.. وشرح هذا شرحاً مفصلاً.. واما ما آل اليه الشرق في عصور انحطاطه فهيكل فارغ وألفاظ جوفاء.. والحضارة اليوم تنتظر ظهور الانسان الجديد الذي رسالته التوفيق بين العلم والضمير، بين الاخلاق والتعامل والطبيعة وما وراء الطبيعة.. ان مالك بن نبي يمثل مرحلة التحرر من التبعية والشعور بالذات بعد الشعور بالنقص.. انه طليعة ورائد!!..
ومع اننا نعيش اليوم في مرحلة التحرر من التبعية السياسية والتي تكون في تاريخنا الحديث الاطار الصحيح للتحرر من التبعية الفكرية والحضارية فلا يزال يعيش الكثيرون من المثقفين العرب على فئات موائد العرب.. ولا يزالون يقفون موقف الذاهل المندهش اما حضارة الغرب موقف التلميذ الصغير امام استاذ كبير.. واما "مالك بن نبي" فهو الذي يقف امامنا ليقول اننا سنقف بعد الآن من الغرب موقف الاستاذ من التلميذ.. يكفينا هذا الشعور بالضعف والنقص والطعن في تاريخنا وتراثنا وحضارتنا والقول ان أولئك الذين نهضوا بالانسانية منطلقة رسالاتهم من بلادنا.. من ابراهيم وموسى وعيسى ومحمد وامثالهم عليهم السلام من الانبياء لم يصنعوا شيئاً بالنسبة الى فرويد ونيتشه وماركس وانجلز.
انه قول من يحتقرون انفسهم وامتهم وينكرون الحقيقة ويجهلون ما بعثه هؤلاء الذين سموا بنفوسهم فوق البشر من روح انسانية عميقة ونفحة الهية في اجيال البشرية المتعاقبة.. ان هؤلاء اناس سطحيون من صغار تلاميذ الغرب وان دورهم في حضارتنا الحديثة قد انقضى فهم ليسوا الا نقلة ومقلدين ومترجمين وقد انتهينا من مرحلة النقل والتقليد والترجمة وبدأنا في مرحلة الابداع مرحلة الشعور بالذات.. ومن هنا تفهمون ذلك المغزى البعيد الذي تستمد بلادنا منه معناها وقيمتها.. ان بلادنا هي الدولة الاولى المهيِأة للرسم بالاسلام طريق التحرر المزدوج.. التحرر السياسي والتحرر العقائدي والتحرر الحضاري والتحرر الفكري.. ولذا سيكون لهذه الدولة الاسلامية في كثير من واقعها معنى وصدى عالميا.. اذا تطهرت من بعض الشوائب التي لصقت ببعض افرادها ودنست به من بعض العادات ولوثت به من بعض الموروثات وكل ذلك ليس من الاسلام الذي ينضح بما تحمله سلاله من ذخائر الخير والجمال في أكمل المثالية واسماها وازهاها وأبهاها.
ذلك ان الغرب يفهم اكثر من الكثيرين منا مع الاسف المغزى البعيد للانسان الجديد الذي سينبثق من الحضارة الاسلامية التي تبنيها بلاد نبراسها القرآن وما جاء به رسول الله رسول الرحمة للعالمين كافة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لتعبر بذلك عن معنى هو في اغوارنا وفي اعماق نفوسنا وتصل ما بين تاريخنا البعيد الذي بدأ من العربية الاولى قبل الاسلام ثم ازدهر واترقى على العالم بعد الاسلام.. ثم انحدر وانحط في العصور الاخيرة.. ينبغي منذ الآن ان نعرف اين هي حضارة الغرب الحديثة واين نحن الآن.. وماذا نستقبل كما قلت لنعرف هدفنا ونتحكم في ادق واصغر تفصيلات حياتنا.. ولنعي من جديد رسالتنا وان القضية ليست فقط في ان نزيل الادران في بلادنا العربية التي مازالت تحت نيرة. ولكن وظيفتنا ان نطرد كل درن من جذوره نفسه.. ان نحرر الانسانية جميعا ان نحررها في الغرب كما نحررها في الشرق.
اننا نريد ان نرقى بالعالم.. نريد ان نحرر البشرية من نفوسها ومن شهواتها.. لنعيد الى العالم الرخاء والسعادة والعدالة والفضيلة.. والحق والحب..
والسلام والخلاص من الآلام!! وفي نهاية المطاف.. سيدرك من يتدبر قولي بعد تساؤلاتي ان الاسلام الدين الحق.. لخلاص الخلق.. وانه بإمكاننا اذا جسدناه في ذواتنا وواقعنا ان نكون بحق مثاليين مؤهلين جدارى بتسلمنا دفة سفينة العولمة وتقييم مسارها بمنهاج الاسلام المنزل من السماء ورحمة للعالمين لكل مكان.. لكل زمان فنكون امتدادا لخير امة اخرجت للناس، اي ان انسان اليوم سيكون خير انسان اخرج للناس بالاسلام الحق.. انه بلاغ فمن يتدبر؟.. ألا هل بلغت؟.. اللهم فاشهد.
محمد كامل الخجا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.